إذاً، سقطت «عاصمة داعش»، الرقة. التنظيم كأنه تبخر في قسم كبير منه، وربما عاود الظهور في مكان آخر من المنطقة أو العالم. في أثناء العمليات الأخيرة لطيران التحالف الدولي والميليشيات الكردية المهاجمة حدثت مفاوضات مع بعض العشائر، ورشح عنها الاتفاق على تحييد عناصر محليين من داعش، وربما نقل قسم من شيوخ العشائر ولاءه لداعش إلى السيّد الجديد، بعدما كان قد نقل ولاءه للأسد إلى «داعش».
كان طوال سنوات قد ثار جدل حول ما يُسمّى «الحاضنة الشعبية» للتنظيم في المناطق التي سيطر عليها، مع حمولة التسمية من تطرف خاص في فهم الإسلام، ونالت مدينة الرقة ما نالته بوصفها عاصمة وحاضنة. بينما حاول كثيرون من سكان المدينة إبعاد التهمة والتركيز على الوجود الداعشي كاحتلال مثل غيره من احتلالات سابقة، وربما لاحقة. اليوم انفكت تلك العروة بين «الحاضنة الشعبية» المتخيلة وتنظيمها، ومن المرجح عدم وجود سوى القلائل من المقاتلين الذين سيتابعون رحلة التنظيم.
لكن في هذا الوقت لا يُستبعد أن يكون سوريون آخرون في طريقهم إلى مختبر داعش، وهذه الفرضية تخالف ما كان موقتاً في التنظيم لجهة إعلان دولة الخلافة، وما استتبعه الموقت من تركيز على سردية «الحاضنة الشعبية». السوريون المرشّحون للذهاب إلى مختبر داعش «أو ما يشبهه» ليسوا حاضنة شعبية بالدلالة المجتمعية الراسخة، هم أفراد، أو ذئاب منفردة وفق التسمية الدارجة، وانسلاخهم المجتمعي سيكون الحافز الأشد للانضواء في موجة التطرف العدمي.
السوريون المعنيّون هم سوريو أوروبا من اللاجئين الجدد، مع تفاوت يفرضه واقع كل دولة أوروبية، وأيضاً مع تفاوت في استعدادات اللاجئين. بدءاً، ينبغي التنويه بأن الجيل الأول من اللاجئين ما يزال حتى الآن تحت فكرة الخلاص من القتل أو الاعتقال، ولم يتسنَّ لمعظمه الابتعاد عن العلاقة الوثيقة بالشأن السوري اليومي، سواء بسبب بقاء جزء من مقرّبيه في الداخل، أو لما تفرضه تطورات الوضع السوري التي لم تتوقف حتى الآن.
أسئلة من نمط العودة إلى سورية أو عدمها لا تُطرح بقوة حتى الآن، لأن الخيار غير متوفر أصلاً. وأسئلة متزايدة عن الاندماج في المجتمع الجديد لا تُطرح أيضاً، لأن أسئلة العودة غير محسومة. لكن، إذا صحت المؤشرات الأخيرة التي تفيد بقبول دولي ببقاء بشار في السلطة، فجميع تلك الأسئلة سيكون مطروحاً بقوة، وسيكون مقلقاً جداً، ومع الوقت ستتناسل الأسئلة الحياتية الأصغر، والأبلغ تأثيراً أحياناً، الأسئلة التي يثيرها الاختلاف الثقافي العميق بين المجتمع المفقود والمجتمع الوحيد المتاح.
في فرنسا مثلاً، وهو بلد يُصنّف تقليدياً كأرض للجوء، لا تطمح غالبية الجيل الأول من اللاجئين إلى الحصول سوى على فرص عمل عضلية، بمن فيهم أولئك الحاصلون على شهادات عليا، وبمن فيهم الذين حصلوا على شهاداتهم سابقاً من فرنسا ولم يعيشوا ولم يزاولوا المهنة فيها، هذا إذا أُتيحت فرصة الحصول على عمل. تلقائياً، سينعكس الوضع على الجيل الثاني الذي تربى في ظروف اقتصادية متدنية، وفي جو أسري منفصل عن المجتمع الجديد، ولن تكون هناك أوهام لا يسمح بها الواقع الفرنسي من نوع الطموح إلى فرصة عمل «عليا»، فندرة المهاجرين التي ترتقي في سلم الأعمال يمكن مقارنتها بسهولة بكفاءات علمية للجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين لم تنل الفرص المستحقة.
في انتظار اللاجئين السوريين، ثمة تجارب أسبق وأرسخ، مثل اللاجئين القادمين من الشمال الأفريقي أو القادمين من الشيشان أو أفغانستان، وهي تجارب أخذت وقتها لتنتظم في ما يشبه مجتمعاً جديداً خاصاً. الهوية البارزة لتلك المجتمعات هي الهوية الإسلامية، إما لأن المجتمعات الأصلية انصهرت فيها الهوية القومية مع الإسلامية ضد عدو مختلف في الدين والقومية، أو لعدم وجود تمييز أصلاً بين العروبة والإسلام كما هو الأمر بالنسبة لمجتمعات شمال أفريقيا. مفهوم الهوية، الذي لا يكون مثار تساؤل حاد في المجتمعات الأصلية، سيطرح نفسه على السوريين في مجتمعات اللجوء، والإسلام المتعين بمجتمعات اللجوء الأسبق يقدّم الحل الأسهل.
مع ذلك، النقمة على المجتمعات الجديدة لن تكون فقط بسبب تردي أحوال مجتمعات اللاجئين عموماً، ولا فقط بسبب انعدام تكافؤ الفرص مع «السكان الأصليين». ما يوازي كل ذلك في الأهمية النقمةُ على الغرب بسبب دوره الفاعل أو غير المكترث إزاء قضايا معاصرة للبلدان الأصلية للاجئين، أو بسبب تاريخه الكولونيالي، أو الاثنين معاً.
في مثال ساخن، تبدو أوروبا اليوم الأكثر اهتماماً بالتطبيع مع بشار، وتريد مقايضة المساهمة في إعادة الإعمار بتحسينات محدودة ضمن سلطته، فضلاً عن حماسها للاتفاق النووي مع إيران وما ستجنيه من مكاسب تجارية، من دون محاسبة طهران على دورها في إبادة السوريين وتهجيرهم. هذه مقدّمات خصبة لاستدعاء النقمة على أوروبا، وأيضاً لاعتبار التواجد في أراضيها منفى قسرياً ما دام بشار موجوداً في السلطة بمباركتها. الإشارة إلى تجارب اللجوء الأسبق وتضاؤل نسبة العائدين إلى بلدانها الأصلية بعد انتهاء الصراعات مسألة مختلفة، فالعبرة هي في انعدام الخيار الطوعي بين البقاء والعودة، يليها لدى الجيل الثاني وجود ملتبس بين بلد أصلي لا يعرفه وبلد يعرفه ويتنكر له.
ربط بقاء بشار ببقاء الإرهاب ينطلق من هنا أيضاً، وفهم أن يستهدف الإرهاب الغرب أولاً لن يكون ممكناً إلا على قاعدة فهم مجتمعات اللاجئين بتمزقاتها، وبالنظرة السائدة فيها التي تحمّل الغرب مسؤوليتها، حتى إذا أتى استغلال «ذئاب» مجتمعات اللجوء من قبل قيادات تعمل في الشرق. الدور الإنساني للغرب في مسألة اللاجئين لن يلعب لصالحه، لأنه سيُرى بوصفه الكفة المقابلة لسياساته الخارجية، أي ضمن منظومة من النفاق الغربي المتعمد.
غني عن الذكر ألا تكون ثمة حتمية تجعل اللاجئين السوريين أو سواهم دواعش، إلا أن التفكر في هذه الاحتمالية قد يؤدي إلى وعي المسافة الرمزية بين الإرهابي الجديد كذئب منفرد واللاجئ كذئب مستوحش. الذين عبروا هذا البرزخ لم يعد أحد منهم ليشرح لنا، وحكومات الغرب إما أنها تفهم ما يحدث وتصرّ على تكراره، أو أنها لا تريد الفهم.
المصدر : الحياة