لكل مرحلة أدواتها وتكتيكاتها، وبوتين الذي تفرّغ للأزمة السورية منذ أكثر من سنتين، عبر متابعته تقويم المواقف التي تصدرها مؤسساته البحثية والأمنية ورصد مواقف الدول وتحليلها، وحتى إقامة ورش عصف ذهني، بات محترفاً بكل تفاصيلها ودقائقها ومعرفة كيف يتصرف إزاء كل نقلة وأين يضع قدمه، في الوقت الذي ينهمك الآخرون بالإنشغال بأكثر من قضية وصراع.
لم يكن عناد بوتين من فراغ بل كان عناد العارف أكثر من الجميع. مئات المصالحات التي أجرتها استخباراته في أرجاء سورية أعطته صورة واضحة عن كل شيء في البلد، ممّ يخاف الناس وماذا يطمحون، آلاف طلعات الرصد والمراقبة التي قامت بها طائراته، قدمت له صورة مفصّلة شملت حتى ينابيع المياه التي يردها مربو الماشية في البادية، ومن تلك التفاصيل صنع بوتين أسس قوته في سورية، فيما كان الآخرون يأنفون إلا الاضطلاع بالقضايا الإستراتيجية الكبيرة.
يلعب بوتين على نقاط ضعف جميع الأطراف المحليين والإقليميين والدوليين، يعرف أن اللاعبين السوريين (نظاماً ومعارضة) مستنزفون إلى أبعد الحدود، وأن ايران وجماعاتها لو كانت لديهم قوّة كافية لإنجاز مشروعهم لما جلبوا الدب الروسي الى كرمهم، وأن تركيا بعد الانقلاب وانكفاء «الناتو» أصبحت دولة هشة وضعيفة، وأن إسرائيل مكبلة بمخاوفها وحساباتها التي اصبحت أكبر رادع لها، وأن دول الخليج خفّضت سقف حماستها رؤيتها إدارات أميركية غير ملتزمة أمن الخليج، لذا صارت تطرق أبواب موسكو للبحث عن مقاربات جديدة تحفظ أمنها.
وللمفارقة، هذا ما يطلق عليه البعض، تلطفاً ومحاولة لتخفيف وقع الرضوخ للمقاربة الروسية، وجود قاعدة دعم دولي للجهود الروسية في سورية وتفويضها إخراج الحل، وفي الواقع لا يعدو الأمر استسلام جميع اللاعبين أمام القوّة الروسية الجبارة.
ومن يسمون شركاء روسيا في الحل، هم قوى جرى ترويضها وتشذيب سلوكها، وإيصالها إلى هذا المكان، فإيران لم تكن تريد مفاوضات مع أي طرف سوري يعارض النظام بل كانت ترى ان لا حلول إلا في سحق المعارضة واستسلامها، وتركيا كانت لها رؤية مختلفة تتمثل بسقوط الأسد ووضع سورية كلها تحت جناحها، لكن ما حصل ان بوتين، وبهدوء، تلاعب بمقادير المعطيات فتغيرت اتجاهات الحدث كلية.
كثيراً ما نظرت الأطراف الإقليمية والدولية الى التدخل الروسي في سورية من زاوية حسابات كمية، مرّة عبر حساب الطائرات المشاركة في الحملة الروسية، ومرّة حساب المصاريف اليومية التي تستهلكها روسيا في الحرب، وبنت رهاناتها على أن موسكو لن تنجح في السيطرة على الواقع السوري الملتهب ولن تثبت تالياً أنها قوة جديرة بالاحترام وتستحق ان تكون طرفاً دولياً مقرراً.
لكن روسيا كانت لها رؤية مختلفة، اعتمدت على هندسة شاملة للوضع السوري تشتغل فيه بكامل طاقتها لتؤسس عليه بناء صعودها الدولي الجديد. استعمل بوتين إستراتيجية التركيز الأقصى على الدور الروسي في سورية واعتبره فرصة يجب استغلالها إلى أبعد الحدود. ونتيجة ذلك راكمت روسيا في الحيز السوري تأثيراً وسيطرة ومعرفة بالواقع المحيط بالحدث السوري بكل تفاصيله، ومواقع وأوضاع اللاعبين فيه.
اليوم، ونتيجة هذا الجهد غير المنقطع والمكثّف، أصبح بوتين قادراً على الانتقال الى الخطوة الثانية بثقة واقتدار، وأما المطالب والاعتراضات من هنا وهناك للاعبين المحليين والإقليمين والدوليين، فبوتين قادر أيضاً على تفنيدها عبر تكتيكات ثلاثة باتت ملامحها واضحة في تعاطيه مع الأطراف المذكورة:
الواقعية: التي تقوم على ضرورة الاعتراف بتغير موازين القوى واستحالة تغييرها لأن ذلك يستدعي إعلان الحرب على روسيا، من مستعد لهذه المهمة؟ لذلك على جميع اللاعبين التعامل بمرونة إن أرادوا الخروج بأقل الخسائر من سورية.
مفاضلة الأولويات: حيث تصبح قضية بقاء الأسد ورحيله تفصيلاً صغيراً مقابل التحدي الذي يفرضه النفوذ الإيراني، وروسيا لا يمكن ان تضمن لأي طرف اقليمي او دولي الحد من النفوذ الإيراني ما لم تكن هناك دولة مستقرة ونظام قوي.
تأجيل الملفات الإشكالية: استطاع بوتين تحويل كل ما يتعلق ببقاء الأسد ووجود إيران ومصير المهجرين والمعتقلين ومصير مناطق خفض التصعيد، إلى قضايا إشكالية لا يفيد طرحها الأن، وما يستحق العمل والاهتمام فقط هو أجندة مواعيد المؤتمرات الروسية حول سورية لأن فيها يكمن الحل.
غير أن جزءاً من الحقيقة مغيب تماماً، أو لم يستطع الكثيرون رؤيته، وهو أن بوتين يريد التصرف بسرعة لاستغلال انتصار قواته على الأرض ووضع الآخرين أمام الأمر الواقع، أي تهميش الدور الغربي واستغلال ضعف المعارضة السورية، وأن الرجل يخفي من الخوف والقلق أكثر بكثير مما يعتقد خصومه، فهو الأدرى والأعلم بإمكانات دولته وظروفها وكيف وصلت الأمور الى هذا الحد.
هل نتوقع جولة مفاوضات ترد الروح وتقوي العزائم؟ إن لم يكن هناك تفاوض يفصّل كل بند بأبعاده وتأويلاته واحتمالاته، وإن لم تكن هناك متابعة خطوة بخطوة لتفكيك إستراتيجية بوتين العميقة، فلا شيء يعول عليه، ومن ليس لديه ترف الوقت والجهد لمتابعة ذلك فليتوج بوتين ملكاً على سورية.
المصدر : الحياة