بعد عمر ناهز التسعين، توفيت جدتي. وكغيرها من الفلسطينيات المعمرات، كانت مرجعا لأحد وجوه التغريبة الفلسطينية المتشابهة. كانت جدّتي لأمي آخر من تبقى لنا من رائحة فلسطين، بتفاصيلها، ولهجتها، و”خراريفها” (أحاديثها) عن يومياتها في الوطن المضيع.
تختزل حياة الأسرة الفلسطينية الحزن والفرح الفلسطينيين، آمال الشعب الفلسطيني وخيباته في آن. أما المرأة الفلسطينية، فقد مارست دورا، وحظيت بمكانةٍ في المجتمع الفلسطيني أكثر من أي امرأة في غير مجتمع عربي. لم يكن ذلك بالطبع في ظل الدولة المدنية الحديثة، بل بالعكس، تحت ضغط اللجوء وغياب الدولة. فاضطرت المرأة الفلسطينية من جيل النكبة لتحمل أعباء مضاعفة، فمارست غالبا دور الأب والأم في آن، حين تغيّب الآباء عن المنزل، لانشغالهم بالنضال الوطني، السياسي والعسكري، أو لأن كثيرين منهم شهداء، أو منفيون بعيدا، أو لأنهم معتقلون، أو أسرى في سجون إسرائيلية وعربية.
عبر عمرها الطويل نسبيا، كانت جدتي شاهدا على تحولات القضية الفلسطينية، ولخصت سيرتها الذاتية، منذ البداية، الوجع الفلسطيني. خرجت مع طفليها من إجزم إلى دالية الكرمل على سفوح جبل الكرمل، وهي اليوم أكبر البلدات الدرزية في فلسطين، وتأسّست في القرن السابع عشر إبّان حكم الأمير اللبناني فخر الدين المعني، بينما بقي جدي مع الثوار الذين استمروا في الدفاع عن القرية حتى النهاية. احتمت أسر فلسطينية عديدة بالقرى الدرزية المجاورة التي لم تقتحمها العصابات الصهيونية، حيث قوبلوا بالترحاب وحسن الضيافة، قبل أن يضطروا إلى عبور الحدود إلى الشتات.
سقطت إجزم، ومضت ستة أشهر لم تسمع جدتي عن زوجها خبرا، لكنه عاد أخيرا وغادرا معا إلى جنين. هناك، وضعت طفلها الثالث (أمي)، لتنتهي بهم المسيرة إلى جوبر شرقي دمشق،التي وجد فيها مجال اجتماعي فلسطيني كثيف، بحراكٍ سياسي فاعل، لكن انتعاش الحركة العمرانية غير المرخصة على أطراف مخيم اليرموك (لا سيما حي التقدم)، منذ بداية الثمانينيات، دفعت فلسطينيين كثيرين كانت معظم منازلهم في جوبر مستأجرة، إلى تحقيق حلمهم بملكية منزل، حتى لو في منطقة مخالفات سكنية.
نفذ، في 1976، حكم الإعدام بأخيها صالح سرّية، بعد أن دانته محكمة مصرية بالضلوع بقيادة محاولة لقلب نظام الحكم في مصر، عرفت بعملية الفنية العسكرية. أراد صالح سرّية الاستيلاء على كلية الفنية العسكرية وأسلحتها في القاهرة، للزحف على مقر الاتحاد الاشتراكي القريب، حيث كان سيجتمع فيه كبار رجال الدولة، وفي مقدمتهم الرئيس أنور السادات، لكن من دون أسلحة ومن دون إراقة للدماء، استبدال المادة المنومة في الحلوى التي قدمت لحراس الكلية بمادة مهدئة كان سببا رئيسا في فشل العملية. ولم يكن صالح سرية الفلسطيني الوحيد الذي اعتقد أن طريق تحرير فلسطين يمر عبر إطاحة أنظمة عربية. فُجعت جدتي، وأصبحت منذ ذلك اليوم أقل بهجة وأكثر ميلا إلى العزلة.
لم يكن راتب جدي الذي يتقاضاه خلال عمله في صفوف أحد فصائل منظمة التحرير كاف لإعالة عشرة أولاد. اضطر أخوالي للعمل، أو للعمل والدراسة، الجامعية والمتوسطة، في آن معا. أحب أحد أخوالي ابنة عمه التي تقيم في العراق، بعد لقائهما خلال زيارة لها إلى سورية، فغادر المنزل للعمل في الكويت أواخر السبعينيات، ليغيب عنه 25 عاما. ازدادت جدّتي كآبة، أما حصار ابنها البكر في بيروت العام 1982 فدفعنا إلى الظن أن تلك آخر أيامها، لكن حياتها انتعشت نوعا ما بعد عودته سالما، وقد غنم حب فتاة لبنانية أصبحت لاحقا زوجته، بعد قصة عشق تحت أنقاض بيروت. الحب وتقرير المصير من حق الفلسطيني، مع فارق في نسبة النجاح بين هذا وذاك.
مضت سنوات قليلة، ليتمكن خالي الذي غادر إلى الكويت من الزواج بمن أحب. في عهد صدام حسين، كان في وسعه، باعتباره فلسطينيا، الدخول إلى العراق، لكن زوجته لم تتمكّن من دخول الكويت. وحدها جدتي أنقذت الموقف، بعد سنواتٍ من فراق الزوجين. في موسم حج العام 1990 وقفت جدتي على جبل عرفات، ودعت الله أن يجمعه بزوجته في القريب العاجل. اجتاح جيش صدام حسين الكويت، وتسنّى للزوجين البقاء معا، لكن هذه المرة في بغداد.
تعرّض كثيرون ممن بقوا من فلسطينيين في الكويت للاضطهاد، وسوء المعاملة، متهمين بالعمالة لنظام صدّام حسين. أما مع سوء الأوضاع المعيشية، والأمنية، بعد الاحتلال الأميركي للعراق، فقد بدأ الفلسطينيون يتعرّضون لمضايقات، تحولت لاحقا على يد الطائفية التي اجتاحت العراق خطة ممنهجة لتصفية الوجود الفلسطيني هناك، ما دفع خالي إلى التفكير في العودة إلى سورية، بعد مضي عامين على وفاة جدّي. كان ذلك في العام 2004، ولم تكد جدّتي تكحل عينيها برؤية ابنها حتى فارقها هذه المرة إلى الأبد. تحولت ضحكة غامرة نابعة من القلب لم يعتدها إلى جلطة قلبية غيّبته عن محبّيه.
غادرت الأسرة، في الثمانينيات، جوبر التي أصبحت حيا دمشقيا تصدّع فيه المجال الاجتماعي الفلسطيني مع حركة الهجرة نحو المخيم، لتقتني سكنا في منطقة السيدة زينب. لاحقا، انتقل من تزوج من الأبناء إلى مخيم اليرموك. بقي أحد ابنائها مع أسرته في جوبر، لكنه غادرها إلى مثواه الأخير، بعد إصابته بسرطان الحنجرة.
مع اندلاع الأزمة السورية، فقد أفراد العائلة منازلهم، سواء في اليرموك، أو في السيدة زينب، وما زال أحد أبنائها في عداد المفقودين. تشتت العائلة، وكان على جدّتي أن تدفع ضريبة أنها عاشت أكثر مما ينبغي، بحسب وصفها، فمنذ أقل من سنة، حاصرت عتمة القبر في بيروت ابنها البكر، وهو الذي كان قد حاصره فيها احتلال إسرائيلي وعشق لبناني. حاولنا إخفاء الأمر عنها، لكنها سرعان ما استشعرت ذلك، وأجبرتنا على الاعتراف.
لم تعد المسألة في سورية فقط مواجهة لحظات الفراق والوداع المتكرّر، بل أيضا مواجهة عبء إكرام الميت ودفنه. مخيم اليرموك الذي لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه، والذي طالما فشلت محاولات إدخال المساعدات الإنسانية إلى قاطنيه، فاجأنا أن في وسعه احتضاننا موتى. هكذا كان حال جثمان جدتي الذي ضاقت به الأرض.
بعد الحصول على الموافقات الأمنية والإدارية اللازمة من الجهات الرسمية، وبإشراف منظمة التحرير الفلسطينية والهلال الأحمر الفلسطيني، دُفنت جدّتي في المقبرة الجديدة في مخيم اليرموك، إلى جوار زوجها واثنين من أولادها. وحدها الجثث في وسعها العبور إلى المخيم.
المصدر : العربي الجديد