سورية لم تعد أزمة شعبها ومقبرته الجماعية بل صارت ذاكرة أكثر منها راهناً أو واقعاً معيشاً. فإذا رأينا ما حصل في عفرين من احتلال بغطاء تركي، وما حصل من قبل من هيمنة إيرانية واستحواذ روسي وانفلات ميليشيوي حزب اللهي وسواه، ووجود أميركي وغربي على طول سورية وعرضها – سنكتشف ولادة الدولة المتعدّدة السيادة التي تُجسّد إرادة قوى وشعوب غريبة لا إرادة الشعب السوري الذي يسكنها ويحملها في ذاكرته الجمعية. فسورية اليوم بعد دخولنا السنة الثامنة لأزمتها، تخضع لسيادات عدة أفرغتها من مضمونها وسُكانها ومن معناها الشامي ومن تاريخها الذي سبق الجلاء والاستقلال.
بينما كان بشار الأسد يُطلّ من مركبته على التقتيل الذي أحدثه في الغوطة مستعيناً بكل وحشية «المنظومة الدولية» الراعية له، كانت تتعمّق في الإقليم السوري معالم تقطيعه إربًا. فإذا كانت اتفاقيات سايكس – بيكو أنشأت حدوداً مرسومة على المسطرة، اصطناعية لوطن أفنى كثيرون أعمارهم ومصائرهم في سبيله، فإن سنوات المِحنة السورية منحت الفرصة لتقطيع أوصاله وفق خارطة مصالح آخذة بالتبلور. أما الشعب في سورية فمجرّد تفاصيل ثانوية غير ذات أهمية بالنسبة إلى روسيا أو تركيا أو إيران أو أميركا أو غيرها من إرادات. ولا أظنّ أن الأمر سيتوقف هنا لأن هذه الإرادات وإن كان معنية بوكلائها، لكنها يُمكن أن تتخلّى عنهم في كل لحظة. وعليه، فالوضع في سورية سائل وقابل للتحوّل باتجاه تعميق تعدد السيادات وتعديل خارطة استقطاع مناطق نفوذ لمصلحة هذه الجِهَة أو تلك.
سورية التي كانت لم تعد بعد. وما حصل ما لم يكن ليحصل لولا تحوّل نظام فاقد للشرعية إلى تاجرٍ مستعدّ للسمسرة بالدولة الكيان والسيادة والوطن والمقدّرات والتاريخ والناس كجزء من طُغيان قوانين السوق وسريانها على الدول والكيانات والهويات في إطار سيرورة عولمة كاسحة. وهناك – يتضح لنا مَن هو مستعدٌ لحضور السوق فيبيع ويشتري. كل ما في الأمر مليون شهيد من السوريين والسوريات وتشريد حوالى 12 مليون إنسان وإخضاع الباقين لقوانين اللعبة. هذا ما حصل في السنوات السبع العِجاف وهو ما سيحصل في السنة الثامنة والتاسعة كما تؤشّر الوقائع على الأرض. صارت سورية مثالًا حيًّا بالموت والتدمير والبثّ المُباشر لدولٍ متعدّدة السيادة أو للدول التي لا تجسّد إرادة أهلها وشعوبها. وهي ظاهرة قابلة للاتساع في المدى المنظر كجزء من انهيارات المنظومات الدولانية المعهودة التي نشأت وتطورت من فكرة الدولة الوطنية السيادية أو من فكرة دولة العقد الاجتماعي.
هناك مَن يُريد أن يُنسينا مفهوم الدولة المُشتق من هاتين الفكرتين – الدولة ككيان سياديّ يُجسّد إرادة سكانه وشعبه (على مكوّناته) وكمَشروع وطني جماعي هدفه رفعة السكان المواطنين ورفاهيتهم وحرياتهم وكراماتهم. لم يعد في سورية أي شيء من هذا ولم يكن فيها الكثير منه قبل 2011. بل كانت دولة «نحيلة» تفتقد إلى مثل هذه المفاهيم التي في أساس فِكرة الدولة والعقد الاجتماعي. وهناك مَن يُصرّ على نزع هذه السِمات عن الدولة السورية وزجّها ورقة في لُعبة القوى العالمية يحرقها هذا اللاعب ويستثمرها ذاك. فكثيرة هي السجالات التي تتأسس أصلاً على المفاضلة بين روسيا وأميركا أو بين تركيا وإيران أو بين إسرائيل وإيران في معمعان المحنة السورية. وتتشعب السجالات إلى المُفاضلة بين حكام عرب وبين إيران. وعند هؤلاء أيضاً يتمّ تغييب الشعب السوري تماماً من الحسابات. فلا يهمهم إذا مات أو نجا أو إذا تشرّد أو نزح. المهمّ أن تنتصر العقائد والأيديولوجيات وأن يشعر هؤلاء بالراحة من تطور الوقائع المروّعة على الأرض. المهم أن تنحو الأمور ناحية مُريحة لهم كأن تتوغّل تركيا في الشمال أو كأن تتسع رقعة القصف بالطائرات الروسية أو توغّل ميليشيات المُرتزقة الإيرانية.
مهما يكن من أمر، فإن سورية التي كانت صارت أكثر وأكثر جزءاً من ذاكرة جماعية، والشام صورة في الأرشيف وحلب طللاً داثراً تحت أرجل الغُزاة. مهم أن يحتفظ المتذكرون بذاكراتهم فربما يحتاجها المؤرّخون وعلماء السياسة والاجتماع لفهم طبيعة الدولة المتعددة السيادة وظروف ولادتها.
وقد يحتاجها الحقوقيون والسياسيون اللاحقون في الاستدلال على ما فعله الطواغيتُ وحلفاؤهم والهتّافون لهم. هذا وإن كان على أيدي المناصرين لهم دم أطفال الغوطة وفي هتافاتهم ملامح الجريمة.
المصدر : الحياة