كأن حزب الله استشعر أثراً باهظ السوء على المزاج اللبناني العام من تبخيس قياديٍّ فيه، ومذيعةٍ في تلفزيونه (المنار)، فوز فيلمٍ لبنانيّ في مهرجان كان السينمائي أخيرا بجائزةٍ رفيعة، فاضطر إلى أن تُصدر “العلاقات الإعلامية” فيه بيانا يقول إن ما صدر من “بعض الإخوة والأخوات” بخصوص الفيلم لا يعبّر عنه. ولكن “توجيها داخليا”، نُشر أن حزب الله أذاعه، يوضح أن ما غرّداه، النائب نواف الموسوي والمذيعة منار صبّاغ، بشأن فيلم نادين لبكي، “كفرناحوم”، هو الموقف الحقيقي للحزب، فالتوجيه يفيد بأن الحزب ليس ضد “الفن الهادف”.
وبعيدا عن حزمة أسئلةٍ يشيعها هذا المفهوم الملتبس، بتقاسيمه وتفاصيله مثلا، فإن هذا القول لم يستطع أن يخفي إن “كفرناحوم” ليس من الفن المطالَب بأن يكون هادفا، الفيلم الذي لم يشاهده أيٌّ من ناس حزب الله، مخضرمين كما الموسوي، أو شبابا كما صبّاغ، والذي لا يستقيم مع مزاج هؤلاء الناس، إذ هو معنيٌّ بمقطعٍ من عذاب السوريين، العذاب الذي لا يراه حزب الله، ولا يريد أن يراه.
صفّق مشاهدو فيلم نادين لبكي، في أهم تظاهرةٍ سينمائيةٍ عالميةٍ، نحو خمس عشرة دقيقة. وبعد إعلان فوزه بجائزة لجنة التحكيم (ثاني فيلم لبناني يحصل عليها بعد “خارج الحياة” لمارون بغدادي في 1991)، غرّد رئيس الحكومة، سعد الحريري، ووزراء ونواب ومثقفون لبنانيون كثيرون، معتزين بهذا الإنجاز اللبناني الفني عالي القيمة. ولأن لا صلة لحزب الله، كما شأن أحزاب إسلامية عربية كثيرة، بالفنون وبهجتها، السينما والمسرح والتشكيل مثلا، فقد كان عاديا أن لا يحفل بنادين لبكي وفيلمها وجائزته، ولم يكن أحدٌ ليعتب عليه في ذلك، فلا تشتمل “ثقافة المقاومة” التي يُشهر بيارقَها على شيءٍ من مشاغل لبكي، وزملائها من الباحثات والباحثين عن تجارب ومغامرات جمالية مشهدية وبصرية وفنية. هي ثقافة السلاح الحامي، والذي يحقّق الفخر للبنان في بلدة القصير السورية، على ما غرّد الموسوي وزميلته. وبهذا المعنى، لا يصير تكريم روائيٍّ أو شاعرٍ أو مغنٍّ لبناني بجائزةٍ في أي عاصمةٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ واقعةً جديرةً بالانتباه أو الاكتراث، ولا بالفخر طبعا، إذ لا فخر إلا بالشهداء (في القصير!)، على ما ترى المذيعة الشابة.
ولأن سوء الظن من حسن الفطن، كما يقولون، لواحدنا أن يسأل عمّا إذا كان ما استفزّ النائب في حزب الله أن “كفرناحوم” عن طفلٍ سوري نازح في لبنان، وأنه، كما قرأنا، يختار من المحنة السورية وجها إنسانيا محضا، لا حربيا ولا قتاليا؟ لو كان الفيلم اللبناني الذي استحقّ الجائزة العالمية الرفيعة عن شأنٍ آخر، بعيدٍ عن الكابوس السوري المريع، هل كان النائب المنتخب من حزب الله سيرميه بالازدراء الذي غرّده؟ موجز المسألة أن حزب الله لا يجد نفسه أبدا في فضاء ثقافة الانفتاح والحرية والخيال، يُؤْثر النأي عنها، مزاجُه مضادٌّ لها، ينفر منها إن لم يقاومها. ثمّة مساحاتٌ من الامتعاض لا يخفيها ناس حزب الله تجاه ناس الثقافة والفنون والآداب، وهم في هذا يلتقون مع “الإخوانيين المسلمين”، مع أن صناعة السينما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية متقدّمة إلى حد ما، وحظيت في زمن محمد خاتمي وزيرا للثقافة ثم رئيسا بإسنادٍ ودعمٍ معلوميْن. ومن المفارقات أن مهرجان كان الذي حازت نادين لبكي، اللبنانية كما يحسن التذكير، على جائزة لجنة التحكيم فيه الأسبوع الماضي، تم افتتاحه بفيلم إيراني.
ما العمل إذا كانت مخيّلات القائمين على مهرجان كان، ونظرائهم في غير نشاطٍ فني وثقافي في العالم، لا تعرف ما يمايز الفن الهادف عن الفن غير الهادف؟ ليس في الوسع حل هذه المشكلة. وطالما الأمر كذلك إلى الأبد، فإن العالم، ومن ضمنه لبنان الذي هنأ نادين لبكي، في مطرح، وحزب الله، ومعه شيءٌ من لبنان الذي استخفّ بجائزة “كفرناحوم”، في مطرح آخر.. إلى الأبد.
المصدر : العربي الجديد