يدلّ فتح معركة الجنوب السوري، بعدما كانت أكثر التوقعات والتحليلات تستبعد ذلك، على أن التفاهمات الروسية – الإسرائيلية أشمل وأعمق مما كنا نعتقد بكثير، وأن مفاعيلها تتجاوز بالتأكيد التفاهمات الروسية – الأميركية حول المنطقة، ذلك أن منطقة خفض التصعيد في الجنوب، بخلاف الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وحتى إدلب، لم تكن جزءا من مسار أستانة الذي بدأته تركيا وروسيا بعد معركة حلب الشرقية في ديسمبر/ كانون الأول 2016، وانضمت إليه إيران لاحقا، بل كانت محكومةً بتفاهم روسي – أميركي عتيد، تم التوصل إليه في اجتماع الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في ألمانيا في يوليو/ تموز 2017، والتأكيد عليه في قمة “أبيك” في فيتنام في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، قبل أن توضع تفاصيله في اتفاقٍ ثلاثي شمل الأردن، الطرف المعني مباشرة بمنطقة الجنوب.
وكان يُفترض بهذا الاتفاق “الأسمى” من اتفاقات أستانة، كونه تم على المستوى الأعلى في الصراع الدائر في سورية، أن يشكل، من وجهة نظر روسية، مدخلاً لتفاهمات أكبر مع واشنطن بشأن سورية وقضايا أخرى، بما فيها العقوبات الاقتصادية وأوكرانيا واتفاقات خفض الأسلحة الاستراتيجية، وغيرها. أما أميركيًا فكان المأمول أن يفتح هذا الاتفاق الباب أمام تعاونٍ روسي لاحتواء إيران وكبح جماحها في سورية وعموم المنطقة. لكن هذا لم يحصل لأسباب مختلفة، أهمها المعركة السياسية الشرسة التي تجري في واشنطن بين إدارة ترامب و”الاستبلشمنت” بشأن روسيا وقضايا أخرى. من هنا بدأت روسيا وإسرائيل، كل لأسبابه، بالعمل على تطوير تفاهماتهما بشكل مستقل، والتي كان فد بدأ العمل عليها منذ اليوم الأول للتدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وصولا إلى السماح بفتح معركة الجنوب.
تمت التفاهمات الروسية – الإسرائيلية على أساس تهميش الدور الأميركي في اتفاق الجنوب، باعتبار أنه يمثل دور الحامي للمعارضة السورية في المنطقة، والسماح للنظام السوري بالعودة للسيطرة عليها عن طريق مصالحات، وإلا فبالقوة، في مقابل إبعاد روسيا إيران ومليشياتها عن المنطقة، وإلا فعلى روسيا أن تخلي بينها وبين الإسرائيليين، وأن لا تعترض سبيلهم، كما فعلت عندما أسقطت الدفاعات الجوية الروسية طائرة إف 15 الإسرائيلية فوق الجليل، في رحلة العودة من الضربة التي استهدفت مطار تي فور في العاشر من فبراير/ شباط الماضي.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه على ما يبدو، خلال زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى موسكو في التاسع من مايو/ أيار الماضي، تمت ترجمته خلال ساعات، عندما وجهت إسرائيل، في اليوم التالي، ضربة شاملة طالت نحو 40 موقعا إيرانيا في سورية. وقد بدت روسيا في تلك الضربة لإيران متواطئة بالكامل، وكانت كفيلة بإقناع الأخيرة بالموافقة على الاتفاق الروسي – الإسرائيلي، بحسب ما كشف عنه المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة، وتصريحات سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الذي قال إن إيران تدعم جهود موسكو الساعية إلى إعادة بسط سلطة النظام على منطقة الجنوب.
بلغ مقدار الثقة بين الإسرائيليين والروس حد نفي وزير الحرب الإسرائيلي المتطرف، أفيغدور ليبرمان، أخبارا مصدرها المعارضة السورية عن تخفي عناصر إيرانية، ومن حزب الله بملابس الجيش السوري النظامي للبقاء في المنطقة، مبديًا ثقته الكاملة بالتعهدات الروسية التي تحدثت عن خلو المنطقة من أي عناصر إيرانية، وعدم مشاركة مليشياتها في المعارك.
ويبدو واضحا من بيان الخارجية الأميركية الذي طلب من المعارضة السورية عدم توقع الحصول على مساعدة عسكرية أميركية، في أي مواجهةٍ مع قوات النظام، أن إسرائيل تمكّنت من تليين المعارضة الأميركية للاتفاق الروسي – الإسرائيلي، باعتبار أنه يخدم أجندتها أيضا، إذ نجحت إسرائيل في الحصول على مساعدة روسيا في احتواء إيران، وهي سياسة أميركية أصلا. ويبدو أن الإسرائيليين لعبوا دورا إضافيا في التقريب بين الروس والأميركيين، خصوصا منهم مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، والذي كان يعد من أصحاب المواقف المتشدّدة تجاه روسيا، ها هو يزور موسكو اليوم للإعداد لأول قمة رسمية روسية – أميركية منذ وصول ترامب إلى الحكم، ولا نستغرب إذا كشفت الأيام المقبلة عن تفاهمات روسية – إسرائيلية أعمق بكثير مما نتحدّث عنه الآن.
المصدر : العربي الجديد