يتفق متابعو الوضع السوري في الأعوام الماضية على قول إن الوحشية التي يمارسها النظام السوري في تعامله من السوريين غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، بالإضافة إلى ما قام به الإيرانيون وميليشياتهم.
ويستند التوافق السابق على أساس معرفي واسع وكثيف، تتضمنه مئات آلاف التقارير الإخبارية ومثلها تقارير صدرت عن منظمات وهيئات وجماعات حقوقية دولية، وأخرى إقليمية ومحلية، وشهادات لشخصيات عامة مختلفة سورية وأجنبية، تابعت ووثّقت في فترات مختلفة، ما قامت به أجهزة ومؤسسات النظام السوري من أعمال قتل وتعذيب ضد السوريين طوال نحو ثمانية أعوام.
وتواصلت الأعمال الوحشية ضد السوريين عبر مسارين، أولهما مسار العمليات العسكرية بما فيها الهجمات بالأسلحة المحرمة دولياً، التي شارك فيها حلفاء النظام في أغلب المناطق السورية، وأنتجت قتلاً واعتقالاً واسعين في صفوف المدنيين بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، ومثالها الأخير ما جرى في الجنوب السوري، وشمل أجزاء واسعة من محافظتي درعا والقنيطرة، وقبلها ما جرى في غوطة دمشق الشرقية في أبريل (نيسان) الماضي، وقد حوّل مدنها وقراها إلى ركام وغالبية سكانها إلى قتلى ومعتقلين.
والمسار الثاني، تمثله عمليات الاعتقال الواسعة، التي تتواصل بصورة رئيسة من قبل أجهزة النظام وميليشياته، وتتبعها عمليات تعذيب في معتقلات المخابرات، والوحدات العسكرية والميليشيات التابعة للنظام، وبصورة أقل لدى قوات وميليشيات حلفائه، ويقدّر عدد السوريين الذين كانوا ضحايا المسار الثاني بأكثر من مائتين وخمسين ألف شخص بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال والشيوخ.
ورغم أن ما يتم في المسارين من أعمال إجرامية، استهدف سوريّي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تمت إعادة السيطرة عليها، فإن بين ضحايا المسارين أعداداً كبيرة من غير المعارضين والثائرين على النظام، بعضهم من «الرماديين» الذين يصنفون أنفسهم خارج المعارضة والثورة، وآخرون من مؤيدي النظام، حيث إن أعمال القتل والاعتقال لا تندرج في سياق الأعمال العاقلة، وتقوم بها أجهزة وأشخاص أعماهم الحقد والضغينة والمصالح الضيقة والأنانية المنتمية إلى نهج الفساد والرشوة والسرقة السائدين في أجهزة النظام ولدى غالبية المتنفذين فيها.
لقد حوّلت الأعمال الإجرامية للنظام وأجهزته وحلفائه، سوريا إلى ميدان قتل معمم، ظاهره العام مذابح وحملات اعتقال واسعة ناتجة عن العمليات العسكرية، والخفيّ منه اعتقالات واختفاءات قسرية، وفي الحالتين تتبع الاعتقالات عمليات تعذيب وإهمالات صحية وتجويع للمعتقلين، تؤدي إلى مقتل عشرات الآلاف منهم في سجون المخابرات وسجون الوحدات العسكرية ومقرات الشبيحة والميليشيات الحليفة، بل إن المشافي التابعة للنظام السوري، أخذت حصتها المباشرة وغير المباشرة في عمليات تعذيب المعتقلين وقتلهم، خصوصاً المشافي العسكرية، ومنها المشفيان 600 و601 في دمشق، والتي أثبتت شهادات عشرات الخارجين منها مشاركة كوادرها الطبية والإدارية في عمليات تعذيب المعتقلين حتى الموت، والقيام بإصدار شهادات وفاة مزوَّرة لبعضهم عن أسباب الوفاة.
وتكثف شهادات «قيصر» العسكري المنشق عن النظام، والمكلف تصوير وتوثيق جثث مقتولين تحت التعذيب، تفاصيل عن ميدان القتل المعمم في فروع المخابرات ومشافي النظام، وسرَّب «قيصر» 55 ألف صورة لجثث «تُركت في العراء عرضةً للقوارض والحشرات»، قبل أن يتم «جمعها وأخذها إلى أماكن مجهولة»، وأكد أن «آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام، والأمراض المختلفة وبينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا والخنق» تظهر بوضوح على جثث القتلى، وفيها جثث «أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 12 و14 عاماً، وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 عاماً»، وبيّن صاحب الشهادات أن «مصير الجثث الدفن في مقابر جماعية»، أو أنه يتم إحراقها في أفران خاصة وفق مصادر أخرى، ذكرت أن النظام يملك ستة منها.
ويضيف تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية، ونشرته عام 2017 تحت عنوان «المسلخ البشري»، توثيقاً لعمليات إعدام جماعية نفّذها مسؤولون في سجن صيدنايا قرب دمشق، شملت قتل ثلاثة عشر ألف معتقل بين عامي 2011 و2015 أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، ولاحظ التقرير الذي اعتمد على شهادات لحراس سابقين في السجن، ومسؤولين ومعتقلين وقضاة ومحامين، إضافة إلى خبراء محليين ودوليين، أن الإعدامات كانت «سرّية»، وأنها «جرت أسبوعياً أو ربما مرتين في الأسبوع»، حيث يتم سحب مجموعات يصل عدد أفرادها إلى خمسين معتقلاً إلى خارج زنازينهم، ويُشنقون حتى الموت في قاعة للإعدام في سجن صيدنايا.
وسط كمٍّ هائل من عمليات قتل معتقلين سوريين، تجنب النظام السوري طوال السنوات الماضية الكشف عن مصير المعتقلين، كما رفض بحث ملفهم، وتجاوز السلوكين السابقين إلى إنكار وجود كمٍّ كبير من المعتقلين لديه، واكتفى بتسريبات محدودة لأسماء معتقلين «تُوفُّوا» في السجون، ولجأ في بعض الأحيان إلى إجبار ذوي المعتقلين على التوقيع على أوراق تفيد بأن أبناءهم قتلتهم «جماعات إرهابية»، قبل أن يهتدي مؤخراً إلى طريقة جديدة يتم فيها تسريب أسماء المعتقلين المقتولين عبر سجلات القيد المدني في بعض المناطق هرباً من تحمل مسؤولية مقتلهم وكشف أعدادهم، غير أن هذا النهج أعجز من أن يغطي كارثة سورية بحجم قضية معتقلين جرى قتلهم بدم بارد دون إعلان أو تسليم جثثهم لأهاليهم وسط ظروف غامضة وخاصة لجهة ادعاء النظام أن أغلب من كشف النقاب عن موته إنما مات بسكتة قلبية.
إن قضية المعتقلين في سجون النظام، وموت عشرات آلاف منهم تحت التعذيب أو بفعل الإهمال الصحي والتجويع والشروط البيئية المتردية بين الأبرز في ملفات القضية السورية، والأكثر أثراً في أي حل سوري ممكن أن يتحقق الآن أو في المستقبل بما تحمله القضية من معانٍ سياسية واجتماعية وأخلاقية، ولن يتم تجاوزها دون الكشف عن مصير المعتقلين جميعاً خصوصاً المتوفين منهم، وإطلاق سراح الأحياء منهم بصورة فورية وتعويضهم، وتعويض أهالي المقتولين، وتقديم المسؤولين عن قتلهم للقضاء لينالوا عقاباً يتناسب مع حجم جرائمهم.
المصدر : الشرق الأوسط