مقالات

هيفاء بيطار: لغز الألف دولار السوري

ليس قرار فرض تأشيرة على المواطن السوري الداخل إلى لبنان مفاجئاً، فقد تعودنا، منذ بداية الثورة السورية، أن كل القرارات الدولية والداخلية هي ضد المواطن السوري، كما لو أن هناك إجماعاً عاماً على إذلال هذا الشعب وظلمه. صار لدى كل سوري إحساس مؤكد أن قدره أن يكون منكوباً، وظروفه المعيشية تسوء يوماً بعد يوم، وصار الانهيار الاقتصادي فاقعاً، ولا يمكن إخفاؤه، وتلخصت أهداف الناس وأحاديثها بالثالوث المُحرّم في سورية، البنزين والمازوت والكهرباء. وذابت الفوارق الطبقية، فالكل متوحّد حول الثالوث المفقود أو المُحرم. وتشكلت لدى السوري قناعة أشبه بالحدس أن كل قرار يصدر هو للإمعان في إذلاله.

لذا لم يفاجئه قرار فرض تأشيرة عليه ليدخل إلى لبنان، لكن الفضيحة التي لا يمكن السكوت عنها أن على كل سوري يرغب بالسفر إلى لبنان أن يكون في حوزته ألف دولار!
بالكاد يؤمّن المواطن السوري رغيف الخبز لأولاده، وينتظر المساعدات، ويقف ساعات في طوابير طويلة يكاد لا يخلو منها شارع، للحصول على علبة حليب أو كيس أرز وعبوة زيت. فُرضت على هذا المواطن عقوبات اقتصادية، تمنع تعامله بالدولار، أي ألا يتلقى أية حوالة بالدولار، وألا يرسل أية حوالة بالدولار. يعني باختصار، ممنوع على السوري أن يلمس الدولار. وأنوّه، هنا، إلى أنه ممنوع عليَّ أن أتلقى استحقاق كتاباتي بالدولار.
ولنفرض جدلاً أن هذا السوري المنكوب قرر السفر إلى لبنان لسبب ما، فمن أين سيحصل على الألف دولار؟ لا يوجد بنك خاص، أو تابع للدولة في سورية يبيع المواطن السوري دولاراً، وكل محلات الصرافة السرية (السوق السوداء)، وبعد أن انتعشت، أكثر من ثلاث سنوات منذ بداية الأزمة السورية، انتهى الأمر بأصحابها إلى السجن. كانت تجارة الدولار قمة الفساد في تلك السنوات، إذ بلغ الربح بالدولار الواحد بين سعري شراء ومبيع أكثر من سبع ليرات سورية. وبالتأكيد، لم تكن تخفى على المسؤولين وصناع القرار في سورية ممارسات تلك الفئة من تجار العملة الذين يتخفون بمحلاتهم التجارية من بيع ألبسة إلى دكان صائغ، إلى محل بيع ألعاب للأطفال، وتجد في دكاكينهم زاوية خفيه أو قبو أو طابق علوي، حيث يقف الناس طوابير لشراء الدولار أو بيعه، ويحقق هؤلاء التجار أرباحاً فاحشة. وطوال أكثر من ثلاث سنوات،
“بعد أن تأكد للجميع أنه لم يعد من مجال على الإطلاق لوجود دولار واحد في سورية، صدر قرار أن على المواطن السوري الذي سيسافر إلى لبنان أن يبرز على الحدود ألف دولار” غضت الدولة الطرف عنهم، ثم بين ليلة وضحاها قفزوا إلى السجن، لكن شركاءهم الكبار الذين لا يطالهم القانون ظلوا طليقين، يتمتعون بمليارات من أرباح تجارة العملة في السوق السوداء، وهم مطمئنو البال إلى أن ثمة من يحمل وزر جرائمهم، ويُسجن نيابة عنهم، والكل يعرف من هم هؤلاء الكبار في الفساد الذين لا يطالهم قانون ولا عدالة، ولا يجرؤ قاض أن يزجهم في سجن.
بعد أن تأكد للجميع أنه لم يعد من مجال على الإطلاق لوجود دولار واحد في سورية، صدر قرار أن على المواطن السوري الذي سيسافر إلى لبنان أن يبرز على الحدود ألف دولار. وكل الطرق النظامية وغير النظامية مقفلة، فمن أين سيحصل على الدولار؟ الترجمة الحرفية لهذا القرار أنه ممنوع على السوري الفقير، أو متوسط الحال، الدخول إلى لبنان. لكن، ثمة فقراء مضطرون للسفر إلى لبنان لأسباب عديدة، ولا أنسى قصة الشاب السوري أيهم الذي أصيب بطلق ناري في عينه، وخضع لعدة عمليات. وأخيراً حوله طبيبه المعالج إلى مركز طبي في بيروت، لإجراء عملية قطع زجاجي، وهي بالغة الدقة والصعوبة. وبالكاد حصل أيهم على مساعدات وتبرعات وراكم عليه ديوناً من أجل العملية، لكنه مُنع من دخول لبنان. وحين سألته عن السبب قال لي إنه لا يعرف، وإنهم لم يبلغوه شيئاً سوى أنهم منعوه من الدخول. حالات آلاف من السوريين تشبه حالة أيهم، يمنعون من الدخول إلى لبنان لأسباب لا يعرفونها، وبإلقاء نظرة على حدود العريضة، تجد التباين الهائل بين الجانب السوري من الحدود حيث تصطف مئات السيارات ينتظر ركابها ساعات لكي يتمكنوا من عبور الحدود، ومعظمهم يرتد خائباً، ويعود أدراجه إلى بلده في سورية، والحاجز اللبناني من الحدود حيث تجد موظفاً واحداً، أو موظفين وظيفتهم وضع ختم الدخول إلى لبنان، مع العلم أن أكثر من عشرة أجهزة كمبيوتر متوفرة، ليعمل عليها موظفون لبنانيون، لتسهيل دخول السوريين.
لبنان عاجز عن استقبال الأعداد الغفيرة من النازحين السوريين، وأفهم أن لديها الحق في أن تتخذ إجراءات تتناسب مع إمكانات الدولة اللبنانية التي يعاني شعبها أيضاً من الفقر والبطالة، ومشكلات كثيرة، لكن أن يصدر قرار أشبه بالصفعة المُهينة لكرامة السوري، أو أشبه بالطعنة في الظهر، قرار يُلزم السوري أن يحمل في جيبه ألف دولار ليعبر الحدود (طبعاً إضافة إلى الفيزا)، فهذا قمة الاحتقار للشعب السوري، خصوصاً فقراؤه الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان. أصبح المواطن السوري يعيش في قفص، ممنوع عليه مغادرته. من يبالي بدموع أم رامز، المرأة التي تعمل خادمة في المنازل، وقد تجاوزت عقدها السادس، وكل سنة تزور ابنتها المتزوجة في بيروت، قالت لي: أخدم في البيوت، لأؤمن رغيف الخبز لأسرتي، فكيف سأتمكن من تأمين ألف دولار لأزور ابنتي؟ من يبالي بأمثال أم رامز وأيهم ممّن يُمنعون من دخول لبنان. إلى هذا الحد بلغ الأمر من الاستخفاف بكرامة السوريين، لكي يصدر قرار إلزامهم بالمستحيل (ألف دولار)؟

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى