لا حديث، هذه الأيام، في معظم وسائل الإعلام والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية، إلا عن داعش، حتى بدا لكثيرين وكأن هذه “الجماعة” قدر محتوم، لا يفصلهم عنه سوى أسابيع أو أشهر، لتصبح كامل المنطقة مجموعة إمارات تدين بالولاء لما تسمى دولة الخلافة، التي تتخذ من العراق مقراً ومرجعاً لها. وفي ذلك تسويق غير مقصود من وسائل الإعلام للمشروع السياسي لهذه الجماعة، التي افتكت المبادرة من بقية الجماعات الراديكالية داخل ما تسمى دائرة الإسلام السياسي، ما جعلها الأكثر قدرة على التجنيد والتعبئة والتوسع.
يجب الاعتراف بأن داعش نجح في فرض نفسه إعلامياً، ففي كل أسبوع، على الأقل، ينتج حدثاً جديداً يجعل الإعلاميين يلهثون وراءه ويتابعون تداعياته. ولا يكاد بلد، في المنطقة، إلا ووجد نفسه منخرطاً في حرب، ضد هذا التنظيم، مفتوحة على جميع الاحتمالات، فهو لم يترك أي طرف يمكنه الوقوف على الحياد، بدءاً من العراق وسورية، وصولاً إلى ليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا، مروراً بمصر والسعودية، وبقية دول الخليج واليمن، إضافة إلى معظم دول العالم التي انخرطت في التحالف الموجه ضد داعش.
فتح التنظيم وفروعه مواجهات مع الجميع، ويخوض حالياً حروباً متعددة ضد جيوش كثيرة، على أمل أن ينتصر عليها جميعها مهما كانت خسائره. ففي 2014 وحدها قتل من أنصاره نحو ثلاثين ألف مناصر. لم يترك خطاً أحمر إلا وتجاوزه، لأنه يعتقد أن مهمته الرئيسية تغيير موازين القوى وإطاحة المنظومة السياسية السائدة إقليمياً وعالمياً. وعلى الرغم من أن المنطق العسكري يعتبر فتح الجبهات المتعددة، من أي كان، خطأً قاتلاً، يؤدي بأصحابه نحو الهزيمة الحتمية، إلا أن ذلك لم يمنع المسؤولين الأميركيين من القول، إن الحرب ضد ما تسمى الدولة الإسلامية ستستمر سنوات! فالذي فشل في تحقيقه تنظيم القاعدة، سواء في عهد أسامة بن لادن، أو حالياً، نجح أبو بكر البغدادي، ومن معه، في إنجازه، ويتعلق بتفجير بؤر الحرب والتوتر بشكل متتالٍ، ما جر عشرات الحكومات إلى حرب استنزاف طويلة المدى.
مع أهمية هذا المشهد المعقد والمتحرك، إلا أنه لا يبرر هذا الإدمان الإعلامي الخطير على الأسطورة الداعشية. فمن شأن ذلك أن يصيب الأفراد وشعوب المنطقة بالإحباط وانتظار المصير المظلم. كما أنه سيستنزف العقول والثروات لصالح الدول الغربية وشركاتها المصنعة للأسلحة، وسيطرد الأمل من نفوسنا، في إمكانية بناء مستقبل مختلف عن الاستبداد، الإرهاب معاً. وسيزيد من قدرات هذه الجماعات على استقطاب الشباب العربي الحائر واليائس، ويجعل بعضهم لا يرى بديلاً من هذه الأوضاع المنهارة، إلا الارتماء في حرب مجنونةـ عساها تولد الظروف الملائمة لاستعادة الخلافة الضائعة.
في تونس، حالة اختناق حقيقية تلمسها في وجوه الأفراد وأحاديث المواطنين وارتباك النخب، وخصوصاً لدى النساء. فما يجري في ليبيا أصبح كابوساً يخيم على الجميع، وكأن الخطر أصبح مباشراً وجدياً، وكأن مقاتلي داعش وأشباهها أصبحوا يطرقون أبواب تونس بقوة وعنف. وعلى الرغم من حجم المخاطر التي يمكن أن تنجرّ عما يجري داخل ليبيا، إلا أن ذلك يجب ألا يحجب أو يقلل من الخطوات الجبارة التي قطعت في السنوات القليلة الماضية. لا يزال الأمل قائماً في إمكانية حماية اللحمة الداخلية، وتعزيز ما تحقق على الجانب السياسي، بتقدمٍ يمكن إنجازه على الصعيدين، الاقتصادي والاجتماعي.
ليس الإعلام مطالباً بحجب الصورة الواقعية لتطور الظاهرة الإرهابية، لأنه بذلك يفقد مصداقيته، وفي الآن نفسه، يجب ألا يحشر نفسه، والرأي العام معه، في زاوية ضيقة من دون أفق، وإنما مطالب بأن تكون له رؤية شاملة، تمكّن الناس من النظر إلى ما وراء الجبل، وتستعيد الثقة في قدراتها على صناعة الأمل.
العربي الجديد _ وطن اف ام