مقالات

غازي دحمان – مغامرة تفسير قرارات بوتين

حفلت الأيام القليلة التالية لإعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قرار الانسحاب من سورية بآلاف التحليلات والتقديرات التي تحاول تفسير الحدث، حتى وصل الأمر إلى أن يكون للمصدر الواحد أكثر من تحليل مختلف، ومتضارب أحيانا، وهو ما يوضح حجم الفجوة المعلوماتية عن صناعة القرار في روسيا من جهة والإستراتيجية الحقيقية لهذا البلد.

حاولت مجمل التحليلات التي تناولت إعلان الرئيس الروسي الانسحاب من سورية تفسير الأمر برده إلى خلطة كبيرة من العناصر السياسية والاقتصادية والإستراتيجية التي تبدو، من الناحية الشكلية، منطقية، لكنها تنطوي دائماً على نقص يربك التفسير والفهم، إذ على الرغم من صحة المؤشرات التي يتم استخدامها في التفسير، إلا أن انطباقها على الواقع يبدو غير متناسق، كالمؤشر الاقتصادي مثلاً، والذي يتم الاستدلال به لتفسير الانسحاب الروسي، ذلك أن الوضع الاقتصادي الروسي لم يكن في حال أفضل، يوم قرر الكرملين التدخل في سورية!

لماذا انسحب بوتين؟ كان لمجلة فورين أفيرز الأميركية جواب لافت، يعكس الأزمة المعرفية في تفسير الأمر، حيث علقت “الإعلان الدراماتيكي عن الانسحاب، إلى جانب تحميل طائرات الشحن في سورية أطلقت استجابة مشابهة لاستجابة مترنيخ حينما بلغ نبأ وفاة تاليران في عام 1838 عندما قال: أتساءل ما الذي يعنيه ذلك؟”.

يحيلنا هذا الأمر إلى آلية صناعة القرار في روسيا، والذي يتميّز بخصوصيةٍ تجعله مختلفاً عن النمطية التي تحصل بها هذه العملية في العصر الحديث، في غالبية الكيانات السياسية، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمقاربة أحداثٍ كبرى، من نوع شن الحروب أو عقد الاتفاقيات السياسية والعسكرية والاقتصادية. ففي غالبية الدول، ثمّة منهجية واضحة في اتخاذ القرارات، تتم باتباع آليات محددة، وبشفافية ووضوح غالباً، وذلك تحكمه قاعدةٌ لا مركزية اتخاذ القرارات وديمقراطيتها، وتحتّمها أيضاً ضرورة إشراك الرأي العام الذي يتحمل أفراده وزر هذه التصرفات، إن كان على مستوى المخاطر التي ترتبها القضايا محل القرار، أو على مستوى تحمل الأعباء والالتزامات، وقد رأينا هذا النموذج بشكلٍ واضحٍ في تصويت مجلس العموم البريطاني على مشروع التدخل في سورية، كما رأيناه في النقاشات الأميركية حول الانسحاب من العراق وأفغانستان.

في دولةٍ مثل روسيا، ثمّة ألف سببٍ قد يكون صالحاً لتفسير أسباب تدخلها في سورية وأسباب انسحابها. لكن، أيهما يقف خلف القرار بدرجةٍ أكبر بشأن تلك المسألة التي لا يمكن التأكد منها. وعلى هذه الشاكلة، جاءت أغلب التفسيرات، كان بعضها واسعاً وافتراضياً ومبالغاً فيه، مثل حصول تطوراتٍ في أوكرانيا استدعت قرار الانسحاب الفوري من سورية، علماً أن الأمور كانت أسوأ بما لا يُقاس في أوكرانيا، عندما قرّر بوتين التدخل في سورية، وبعضها بدا ضيقاً إلى درجةٍ لا يمكن تطويره مؤشراً، مثل انزعاج موسكو من تصريح بشار الجعفري عن عدم وجود شيء اسمه حكم انتقالي، مع أن المفترض أن روسيا التي ساهمت بدرجة كبيرة في صناعة سياق العملية التفاوضية تمسك بكل مفاتيحها!

المؤشر الأكثر سطوعاً على حجم الإرباك في تفسير السلوك الروسي، والناتج عن عدم المعرفة بالأسباب المركزية خلف القرار، أن مجمل التحليلات كانت تبدأ بـ “ربما”، وتنهي بـ “من السابق لأوانه الحكم”، وما بينهما سيل من التكنهات التي تتجاوز ذكر عشرات الأسباب، بما ينزع عنها صفتها التفسيرية، ويجعلها أقرب إلى كلامٍ تنجيمي صرف، حتى تصريحات المسؤولين التي يفترض أن تكون أكثر تحديداً ودقةً، استعملت التقنيات الآنفة الذكر.

بالطبع، لا يُلام من يخوض في تفسير السلوك الروسي على هذه الإشكالية، وخصوصاً حينما نكون أمام سلوكٍ وقراراتٍ تترك الأبواب مفتوحةً أمام خياراتٍ وبدائل عديدة، يصعب حصرها، ويصعب معرفة أي منها سيتحول إلى سيناريو عمل، تطبيقاً للقرار المتخذ، ودليل على ذلك أنه في وقتٍ يعلن الكرملين عن مغادرة الطائرات الروسية مطار حميميم، تأتي الأنباء من سورية عن إغارة طائراتٍ روسيةٍ على بعض المواقع، وفيما تنسق روسيا مع إسرائيل، بشأن انسحابها من سورية، تعلن إيران أنها ستزيد من حجم دعمها في الميدان السوري، بإرسال آلاف القناصين والجنود المحترفين؟

هل كل ما يتم كتابته عن روسيا مجرد تصوراتٍ، وليست حقائق؟ لعل المشكلة الأكبر في محاولات تشخيص الحالة الروسية أن تأثير المعطيات التي يجري بناء التفسيرات عليها ليست كافيةً وحدها في الحالة الروسية، مثل المعطى الاقتصادي، أو الرأي العام، أو توجهات النخبة، ثمّة عامل يشترك دائماً مع هذه المعطيات، ويعطب قدرتها التفسيرية، وهو العامل الفردي، أي دور الفرد في صناعة القرار، وهو هنا في الحالة الروسية فلاديمير بوتين. لذا، فإن أغلب التفسيرات لا تأتي على ذكر الاستراتيجية الروسية، مثلاً، بقدر ما تتحدث عن ذكاء القيصر وحساباته، وقدرته على التقاط الفعل في اللحظة السياسية المناسبة.

على ذلك، لا تصح مع روسيا التحليلات بعيدة المدى، والأفضل متابعتها يوماً بيوم، ومعرفة اتجاهات مزاج القيصر وحساباته وهواجسه وطموحاته، أما روسيا فهي بمثابة بلد كل شيء يقف فيه على حرف، الاقتصاد والعسكر، وحتى الديمغرافيا، وبقدر ما هو قابل للانتصاب، يبدو قابلاً للسقوط، بلد صارت قوته في سر غموضه، لذا خاسرٌ من يحاول الدخول الى عقل فلاديمير بوتين، ومحاولة تفسير قراراته، بل تتحوّل الخسارة إلى هزيمةٍ، إذا اتخذت العملية طابعاً منهجياً، مثل الذي يتم تطبيقه على قرارات صنّاع القرار العاديين.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى