وكأن قدر هذه الأمة أصبح، اليوم، محصوراً في خيارات ثلاثة، أحلاها مُرُّ، فهي إما أن تقبل أن تعيش مستكينةً خامدةً ذليلةً تحت أنظمةٍ قمعيةٍ متخلّفة، أو مُحْتَلَّة، أو أن يُعمل فيها حَدُّ السيف الذي يُمارس، اليوم، عبر أسلحةٍ قاتلةٍ محرّمة ومتقدّمة، أو أن تهاجر فرادى وزرافات إلى “الدعوشة” فكراً ومسلكاً. هل ثمّة طريق رابع؟ نعم، وهو أن يعيش الناس أحراراً مكرمين في بلادهم، وأن يتداعوا إلى صناعة مستقبلٍ جديد لهم، لكن هذا الطريق ليس خياراً مطروحاً، فدونه اليوم خرط القتاد.
نحن أمةٌ يعيش جُلُّها حرماناً من كرامة الإنسان، بكل ما تحمله الكلمة من معان. في جُلِّ بلادنا ثمّة كبتٌ وقمعٌ وديكتاتوريات متخلفة، تحكمنا بمسوغات كل أطياف الأيديولوجيا المزعومة، ليبرالية كانت أم يسارية، أم قومية، أم وطنية، أم إسلامية شعائرية تقليدية، أم إسلامية حركية.. إلخ. وسواء أكانت يافطاتها الدستورية ملكية، أم مشيخية، أم جمهورية. أما عن احترامنا بين الأمم الأخرى، فحدّث ولا حرج، فقد أصبحنا صورا نمطيةً للتخلف والجشع والإرهاب.
في غالب الأحوال والسياقات عربياً، لا يهم القالب، فالمضمون واحد، وهو أننا نحن البشر، نحن الشعوب، نحن المواطنون، كَمٌّ زائد مهملٌ قابل للبتر والسحق والقتل. فإنْ لم نقبل بهذا “القدر المحتوم”. حينها لا تشتكي من جزاء الوفاق، كالذي نراه ونعيشه اليوم واقعاً في سورية، أين يحاصر الشعب، يموت جوعاً وفي المعتقلات، وتحت قصف الطائرات والمدفعية. أما إن لم تَكْفِ ترسانة أنظمة إجرامنا في إطفاء جذوة كرامةٍ انبثقت عند الناس، غالباً لا إرادياً جرّاء حجم الإذلال المسلط عليهم، فحينها يكون اللجوء إلى خيار “الاستعانة بصديق”، كما فعل نظام بشار الأسد باستدعائه إيران وحزب الله، أولاً، ثم روسيا، ثانياً، لزرع الموت والدمار في كل شبر من أرض سورية، وتحويل البلد إلى نهبٍ لهم. فالمهم أن يبقى الأسد ولعنة الله على البلد وشعب البلد. أليس هذا هو منطق بشار وداعميه؟
هذا “القدر المحتوم” هو ما يريد الطاغية، محلياً كان أم أجنبياً، أن يوهمنا به، ويرغمنا على قبوله، فهم يصرّون علينا أننا لسنا أهلاً للحرية والكرامة والديمقراطية. أليس فينا غالبية اليوم تتغنى بأمجاد الطاغية، حتى وهو مهزوم؟ أليس فينا من يشيد برحمته، ذلك أنه داس الرقاب ولم يكسرها؟ أليس فينا من يحمد كرمه، ذلك أنه ألقى إلينا بعض فتات موائده؟ بل، أليس فينا من يستدعي عصاه وحذاءه الثقيل، لننعم ببعض “استقرار”، هو نفسه سبب حرماننا منه، كما جرى في مصر عبر انقلاب عبد الفتاح السيسي، وكما نرى في محاولات ذيول معمر القذافي وربيبه السابق، خليفة حفتر، في ليبيا؟
المطلوب منا كشعوبٍ، اليوم، هو أن نقبل بالدنيّة لنعيش كالغنم، نُسَمَّنُ حتى يحين أوان الذبح أو السلخ، برجاء أن يَسْمَحَ لنا الجزار أن نبقى على قيد الحياة، نقتات على حشائش الأرض. ففي حالنا، ليس الذبح والسلخ قدراً، إن بقينا على مذلتنا واستكانتنا، ولم نُقلق راحة الجزار. هذا هو المنطق الذي يسوق لنا اليوم في فلسطين كذلك. لا تقاوموا ظلم الاحتلال الصهيوني، فإن ثمن ذلك كبير.. لا تظهروا له ممانعةً ورفضاً، فإن التداعيات خطيرة.. لا تعترضوا على جرائمه، ففي ذلك استفزاز له. إذن، ما الحل؟
جربت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وسلطة الحكم الذاتي المفاوضات و”السلام”، فماذا “يمثل “داعش” استجابةً مشوهة من عربٍ كثيرين لجرح الكرامة النازف” كانت النتيجة؟ مزيداً من الاستيطان.. مزيداً من التهويد.. مزيداً من القمع.. مزيداً من الحصار.. بل وكذلك، مزيداً من العمالة والارتهان للكيان الصهيوني، بذريعة إعطاء “السلام فرصة” ومحاربة أعداء “السلام” بين صفوفنا، في حين يعلم الجميع أن “السلام” أصبح، في عرف المنتفعين منه، محصوراً في بقاء امتيازاتهم الشخصية والعائلية والفصائلية.
مشكلة الطاغية، بتعريفه العام والواسع، ومشكلة من يصفق له ويهلّل، خوفاً وطمعاً، أنهم لا يريدون أن يستوعبوا أن بقاء الحال من المُحال. البشر ليسوا جماداتٍ، قدرتهم على الاحتمال محدودة، والانفجار لا بد قادم، سواء باسم الحرية والكرامة، أم باسم الاقتصاد والجوع. الحيوان لا يحتمل الظلم والكبت والقمع والأذى، فكيف بالبشر؟ ومع ذلك، يراهن الطاغية أن الإنسان العربي، من حيث كونه “حيواناً عاقلاً”، فإنه سيكون أكثر حذراً في الانفجار، جرّاء الظلم الممارس عليه. وها نحن نرى أن كثيراً من أنظمتنا لم تكذب خبراً اليوم، فهم يحذّروننا من مصائر سورية وليبيا إن تجرأنا وصرخنا من الألم، غير أنهم لا يفهمون، أو أنهم لا يريدون أن يفهموا أن مصادمة نواميس الكون وقوانينه من ضروب المستحيل.
ظن، من قبل، النظام الطائفي في عراق ما بعد الغزو الأميركي، أن الأمر استتب له، وأنه قد كسر جذوة الكرامة لدى المكوّن السني، فراح يُمعن في سياساتٍ طائفيةٍ مقيتة، ملغياً رابطة المواطنة، فماذا كانت النتيجة؟ الجواب معروف: “داعش”. ولولا التدخل الأميركي وعودة احتلالها المباشر إلى العراق اليوم، وإنْ كان بصيغةٍ أكثر احترافيةً وذكاءً، لكان النظام الطائفي في بغداد، وداعمه الإيراني، يعيشان كوابيس النهار.
يمثل “داعش” استجابةً مشوهة من عربٍ كثيرين لجرح الكرامة النازف. إنه يمثل رداً مخبولاً على ما نواجهه من قمع وتحدياتٍ وغياب خيارات وآفاق.. إنه حصاد زرع الطاغية، محلياً كان أم أجنبيا، “أسوأ ما فينا”.. إنه “خيار شمشون” القائم على منطق “هدم المعبد على رؤوس الجميع”.. ومن كان يظن أنه محصّنٌ من سقوط أحجار المعبد على رأسه فهو واهم، فالنسخة القادمة من “داعش” ستكون أكثر خطورةً وتطرفاً وإرهاباً، وذلك إن لم نسارع إلى البحث عن صيغ عقد اجتماعي – سياسي جديد، يعلي من كرامة الإنسان وحريته، وحقه في تقرير مصيره ومستقبله.
هل يستوعب الطاغية ذلك طواعية؟
أشك.
المصدر : العربي الجديد