مقالات

جلال زين الدين – ضياع الهُوية مزَّق سوريا

كشَفَت الثَّورة السورية كثيرا من الحقائق على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي، ولعلّ أخطرَ هذه الحقائق غياب مفهوم الدولة في سوريَا، وتشظي السوريين، وقتلهم بعضهم بعضا، إذ ظهرَ للعيان بعد أكثر من خمس سنوات من عمر الثّورة أنَّ سوريا تُقاد بعقليّة رجال المافيا الطائفيين، وبالتالي قامت العلاقات في سوريا بين السلطة والشعب على مبدأ النفعيّة أولا، وهاجس الخوف ثانيا.

إذ شكلت النفعيّةُ عصبَ العلاقات في سوريا، فغابت المفاهيم السامية التي تتحكمُ بالدول وتدعو للتضحية والفداء من أجل الوطن، فأصبحت الرشوةُ والمحسوبيةُ أمرا طبيعيّا غير مستهجن في دولة الأسد.

أما هاجسُ الخوفِ فتحكمَ بعقلية الأسدين الأب والابن معا، فقد استولى الأسد الأب على الحكم عبر سلسلة انقلابات عسكريّة بدأت عام 1963م وخَتَمَها عام 1970م بالاستيلاء على الحكم، وبما أنّ الأسدَ ينتمي لطائفة صغيرة، فأرّقَهُ أمران: الخوف من الجيش الذي اُشتُهِرَ بالانقلابات العسكرية، والشعب الذي يشكل فيه السنّة الغالبية الساحقة. فَكَيَّفَ الجيش وبرمجه وفقَ هواه، حتّى بات يُسَمَى دون حرج “جيش الأسد”، وأفرغَ سوريا الشعب من عقولها ومفكريها وسياسييها بالقتل أو السجن أو النفي أو التهجير أو الترهيب، فغدت سوريا العربية الأموية تُسمى “سوريا الأسد”.

آتت سياسةُ الأسدين الممنهجةُ والمدروسة أُكلها، حيث ضاعت الهُوية، وغدا المواطن الصالح ذلك الذي يردد في الاجتماع الصباحي قَلبَا وقالبا: قائدنا للأبد الرفيق المناضل حافظ الأسد. فاختُصِرَت الدولةُ بشخصه، وغدت صورُ أولاده أيقونات فُرِضَ على السوريين تقديسها، بل واختُصِر تاريخ سوريا كله بإنجازات القائد، وغدا بناء سد أو مدرسة أو مرحاض إنجازا عظيما ما كان ليتحققَ لولا وجود القائد الرمز.

مُسِخَت هُوية السوريين بشكل ممنهجٍ مدروس، إذ تتميزُ الهوية السورية بأنها هُوية عربية الهوى إسلامية الانتماء، فعاش السوريون وفق هذه الهوية سِلما اجتماعيا، حيث عاشت كافة أطياف المجتمع السوري تحت هذه المظلة الجامعة التي لم تُخرج المسيحي والكردي والدرزي والعلوي والشركسي والأرمني والتركماني وغيرهم، فناضل المسلم والمسيحي معا لتحرير سوريا من المستعمر الفرنسي، وشارك الجميع في بناء سوريا بعد الاستقلال دون أن تعرف سوريا فتنة طائفية أونزعة انفصالية.

هذه الهُوية السورية مكّنَت المسيحي من الوصول لأرفع منصب، بل ومَكَّنَت الأسدَ من الوصول للحكم. فلو كان السوريون طائفيين لما وصل الأسد (العلوي) للحكم، لكنّه – للأسف – تنكر لهذه الهُوية مما أدى لاحقا لهذا التشظي الذي نحصد اليوم مرارته.

وصل الأسد للحكم عبر صهوة حزب قومي (البعث) يرفع شعار: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، لكنَه استعدى العرب، وانحاز للصف الفارسي. فلم تقم علاقات سليمة مع المحيط العربي حتى مع العراق الجار الذي يحكمه الحزب القومي نفسه، فأُفرِغَت العروبةُ من مضمونها، وبقيت شعارا يُدرَّس في أدبيات الحزب الحاكم نظريا فقط.

أما الانتماء الإسلامي فحاول اجتثاثه أواخر سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، واتخذ من حربه ضد جماعة الإخوان المسلمين مبررا للحرب على الإسلام، فأصبح علماء سوريا بين قتيل أو سجين أو مهجر أو منافق للسلطان، وفي أحسن الأحوال التهميش والعزلة لمن بقي في سوريا. فمنعت الدعوة بكافة أشكالها، بل سمح النظام بالمقابل لملالي طهران بالنشاط، فأقاموا المعارض والندوات والأمسيات، ونَظّموا نشاطاتهم على أعلى المستويات.

أدى غياب الهوية السورية ذات المرجعية العربية الإسلامية لاحقا لخوف العلويين من مصيرهم بعد الأسد، إذ جعلهم الأسد رهينة ووقودا لحربه ضد الشعب، كما أدى لولادة إسلام متطرف لم تعرفه الشام منذ شرَّفَها الله بالإسلام، ولاقى الفكر التكفيري أرضا خصبة لدى كثيرين، وربما كان ذلك ردا طبيعيا على تطرف الأسد، بل وسَعَت جماعات لتكوين كيانات انفصالية (إقليم كردي) ودعمتها في ذلك قوى خارجية.

وما يدعو للتفاؤل أنّ العقل الجمعي للسوريين ما زال متمسكا بالهوية السورية، ومؤمنا بأن سوريا لا يمكن إلا أن تكون عربية إسلامية يعيش فيها كل السوريين على قدم سواء رغم محاولات الأسد المتجددة الساعية لتفتيت السوريين، وغير ذلك يعني استمرار التشظي والقتل.

المصدر : عربي 21 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى