لم يكن التدخل الروسي في سوريا نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، بعيدا عن تفاهمات بوتين أوباما، وهو تدخل جاء على خلفية حرب الإرهاب، وقد كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يراهنون في البداية على ممارسة الروس لضغوطات على الأسد لإقناعه بالرحيل في نهاية ماراثون المرحلة الانتقالية، لكن روسيا التي تتوافر على تعريغات خاصة للإرهاب جادلت منذ البداية على أن قائمة الجماعات الإرهابية لا تقتصر على “داعش”، بل تتضمن قائمة طويلة من أخوات “داعش” من الفصائل المسلحة السورية بحسب منطق قياس المماثلة.
عندما أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن التدخل العسكري في سوريا بات بلا أفق ولا نهاية ملموسة، ولا يمكن أن يحقق مكاسب إضافية، أعلن عن انسحاب جزئي بهدف ممارسة ضغوطات على الولايات المتحدة وعلى الأسد لتحصيل أكبر قدر المكاسب الممكنة، فالاستمرار على الوتيرة العسكرية ذاتها دون نتائج سياسية واضحة يتطلب تخصيص موارد اقتصادية، وأكلاف مالية مرهقة، وقد يضع روسيا في مواجهة جيوسياسية لا يرغب بوتين في خوضها.
كما أن المضي قدما في الحملة العسكرية دون ترجمتها سياسيا، يقوض مصداقية روسيا التي حققتها على صعيد موضعة الأطر الديبلوماسية وإمكانية تطبيقها كما جاءت في بيان فيينا في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر2015، ونجاحها في التوصّل لاتفاق هدنة والذي دخل حيّز التنفيذ في 27 شباط/ فبراير 2016، ويستثني كلا من تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، وقد جاء الاتفاق بين موسكو وواشنطن على أساس تثبيت وقف إطلاق النار وكافة الأعمال العدائية، بالتزامن مع استئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق الذي نص عليه القرار 2254.
لم تكن الهدنة سوى حيلة أمريكية روسية للتخلص من تنظيم الدولة الإسلامية والنصرة، مقدمة ضرورية للانقضاض على أطياف المعارضة المسلحة كافة، التي ترفض الدخول في صراع مسلح مع الدولة والنصرة، وذلك باختبار القوى القابلة للاستدخال في “حرب الإرهاب” دون أفق سياسي واضح، إذ بدا واضحا من البداية أن الخطة تستند إلى شن حملة عسكرية واسعة مزدوجة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وحملة مماثلة تشنها روسيا وحلفائها من جهة أخرى للإطباق على الأطراف المعارضة كافة تكون فيها حلب نقطة الالتقاء، وقد ظهرت خرافة الهدنة مبكرا حيث شهدت منذ بدايتها أكثر من 2000 خرقا من قبل نظام الأسد، كانت مدينة حلب عنوانها الأبرز.
لقد حسمت الولايات المتحدة لأمريكية خياراتها في سوريا بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية ولم تعد مسألة رحيل الأسد تتمتع بأهمية ولا تحظى بأولوية، وفي سياق البحث عن شركاء لتحقيق أهدافها وجدت ضالتها بالمكونات الكردية، وبعض القوى والعشائر السنية السورية، حيث أسفرت جهودها في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 عن تشكيل جديد تحت اسم “قوات سوريا الديمقراطية”.
فالتسمية الأمريكية عمدت إلى التعمية على التوجهات القومية والإيديولوجية للقوة الجديدة التي تتمتع بعلاقات مع النظام السوري وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني وسلالاته العديدة، أمثال “قوات الحماية الشعبية”، وهي قوات كردية تابعة لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي”، و”قوات حماية المرأة” وهي فرع من قوات الحماية الكردية، أما بقية القوى المشاركة ضمن”قوات سوريا الديمقراطية” فهي فصائل تجميلية من أقليات إثنية ومجموعات قبلية أمثال “قوات الصناديد” وهي ميليشيات عشائرية يقودها حميدي الدهام، شيخ عشيرة شمر، و”المجلس العسكري السرياني”، و”غرفة عمليات الفرات”، وتجمع ألوية الجزيرة”.
تقوم الولايات المتحدة اليوم بتنفيذ الجزء الخاص بها من الاتفاق مع روسيا، وقد حققت تقدما ملحوظا من خلال حصار القوات الكردية المدعومة أمريكيا لمدينة منبج في ريف حلب، وعلى الطرف الآخر تقوم روسيا وحلفاؤها من النظام وإيران، وحزب الله بالتقدم على الجانب المقابل من ريف حلب، وهكذا تتعامل أمريكا وروسيا مع نظام الأسد شريكا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ويبدو من صمت الدول الإقليمية التي كانت تدعم المعارضة السورية وفي مقدمتها الخليجية أنها قد استسلمت للرؤية الأمريكية الروسية وهي مستسلمة تماما وفاقدة للمبادرة، أما تركيا فهي عاجزة عن مناكفة أي طرف.
لا تقتصر أهداف الحملة الأمريكية الروسية على تنظيم الدولة وجبهة النصرة، بل تستهدف أيضا المعارضة المسلحة السورية، وفي حال التمكن من التخلص من الدولة والنصرة فسوف تبدأ عمليات العزل والقضم والاستدخال فالاستهداف إذا أصرت المعارضة المسلحة على أهدافها التقليدية بالتخلص من الأسد فستجد نفسها خارج حدود اللعبة وفنون المفاوضات.
لكن ذلك لا يزال بانتظار إخراج حلب من نفوذ الدولة والنصرة والمعارضة، وقد أوشكت قوات النظام على تطويق مدينة حلب الشمالية، وعزَّزت مواقعها في جنوب البلاد، وحققت مؤخرا تقدما ملموسا في جيب الغوطة الشرقية المحاصر قرب دمشق، وذلك بالتزامن مع تقدم قوات سورية الديمقراطية بقيادة الأكراد على المعارضة المسلحة وطردها من معظم معاقلها في ريف حلب الشمالي.
خلاصة القول إن ثمة اتفاقا أمريكيا روسيا على التخلص من المعارضة السورية المسلحة التي لا تخضع للشروط والإملاءات، والقبول بالحل الكارثي الذي يستند إلى إعادة تأهيل نظام الأسد، وقد استسلمت الأطراف الإقليمية الداعمة للثورة السورية لتلك الرؤية.
وهكذا، فإن التخلص من تنظيم الدولة وجبهة النصرة سوف يكون مرحلة للتخلص من بقية قوى المعارضة السنية السورية المسلحة، كما حدث تماما مع نظيرتها العراقية إبان الاحتلال الأمريكي، وبهذا فإن القوى الدولية تدعم أي مكون ديني أو إثني باستثناء العرب السنة، الأمر الذي سوف يؤدي لاحقا إلى انفجار الهوية السنية.
المصدر : عربي 21