في خضم التطورات التي تجري على الساحة الإقليمية، طُرحت العديد من التساؤلات حول طبيعة التغييرات في السياسة الخارجية التركيّة، وتحدّث البعض عن تحوّلات جذرية وتحالفات جديدة، لكنّ الاتصالات التي تجري خلف الأبواب المغلقة تؤكّد أنّه لا تراجع عن المواقف الأساسية في القضايا الجوهرية، ولا بأس ببعض المناورات التي تقع ضمن خانة “السياسة فن الممكن” إذا كان ذلك سيؤدي في النهاية إلى إعانة الجانب التركي على التمسك بجوهر هذه المواقف كما سيخدم في النهاية الهدف الأساسي.
وفي الوقت الذي انشغل فيه كثيرون بالحديث عن تحوّلات مفترضة في جوهر الموقف التركي من القضية السورية،كان هناك من يبحث عن تفسير لغياب أو تراجع أو تغيّر الدور السعودية لاسيما في الفترة التي رافقت المحاولة الانقلابيّة الفاشلة في تركيا، إذ بدا واضحاً أنّ المشهد الإقليمي يفتقد إلى واحد من أهم اللاعبين الإقليميين وهو المملكة العربية السعودية.
تقليديا، لم يعرف عن المملكة حبّها للدبلوماسيّة الصخبة، فَجُل العمل كان يتم بهدوء وخلف الأبواب الموصدة، لكن مع مجيء الملك سلمان إلى الحكم، كان من الواضح أنّ هناك تغييرات جذرية تجري في المشهد من حيث المضمون والأسلوب بما في ذلك السياسة الخارجيّة للبلاد.
إكتسبت السياسة الخارجيّة للبلاد زخماً غير مسبوق مع مجيء عادل الجبير إلى وزارة الخارجية وإطلاق عاصفة الحزم في اليمن وتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن الاجتماع الأوسع للمعارضة السورية في الرياض، والحشد الدبلوماسي الإقليمي والدولي لصد إيران، وغيرها من الخطوات التي يمكن وصفها بأنّها خطوات ذات وزن ثقيل.
لكن مؤخرا، بدأ البعض يلحظ نوعاً من التراجع او التحوّل أو الغياب في بعض الأحيان عن قضايا هامة دون معرفة السبب الحقيقي لذلك. هناك من فسّر هذا الأمر على أنّه نتيجة للإجهاد الذي أصاب الممكلة جرّاء انغماسها في عدد كبير من القضايا المصيرية دفعة واحدة، وهناك من يشير إلى نقطة الضعف التقليدية لدى العرب وهي “النَفَس القصير” في السباقات الطويلة المدى، وهناك طرف ثالث يشير إلى وجود محاور متنافسة أو متصارعة داخل المملكة بين الخط الذي يمثّل الانطلاقة التي حصلت مع مجيء الملك سلمان والخط الآخر الذي يخضع لنفوذ خارجي، وأنّ الأخير سيطر مؤخراً على بعض السياسات خلال المرحلة الماضية لاسيما ما يتعلق بملف مصر وسوريا وتركيا.
وفي هذه المرحلة بالتحديد، لاحظ مراقبون وجود تثاقل وتباطؤ في ردّة الفعل السعودية المفترضة على تطورات بالغة الأهميّة في أكثر من قضية في المنطقة. عندما وقعت المحاولة الانقلابيّة الفاشلة في تركيا، لم يكن هناك رد فعل سعودي سريع، أو لنقل بشكل أدق أنّ البعض في تركيا كان يتوقّع رد فعل سعودي أسرع وأقوى وأكبر، نظرا لأهمّية العلاقات الثنائية المتصاعدة بين البلدين ناهيك عن المصالح المشتركة في الملفات الملتهبة في المنطقة. يكفي أن نعلم أنّه لم يزر حتى هذه اللاحظة أي مسؤول سعودي رفيع المستوى تركيا حتى نعلم حجم الموضوع الذي نتكلّم عنه.
البعض الآخر أصيب بحالة من الصدمة جراء الطريقة التي غطّت فيها بعض وسائل الاعلام المحسوبة على المملكة أو القريبة لها المحاولة الانقلابيّة الفاشلة والتي كانت أقرب الى تمثيل المعسكر المؤيّد للانقلاب العسكري، وقد فُسِّرت هذه التغطية الإعلامية على أنّها انعكاس للتحول الجاري في السياسة الخارجية السعوديّة خاصّة أنّ عدداً من المؤشرات المتراكمة كانت توحي بذلك.
خلال المعارك التي خاضتها المعارضة السورية في حلب نهاية يوليو الماضي وبداية أغسطس، اشتكى البعض من شحّة الدعم العسكري والمالي السعودي إن لم نقل غيابه، في حين تحدّث آخرون عن وجود نوع من التراجع السياسي. وفي تفسير هذه المواقف أيضاً من غير الواضح عمّا إذا كان ذلك ناجم عن تعرّض المملكة لضغوط شديدة مباشرة من الجانب الأمريكي وغير مباشرة من الجانب الروسي لاسيما في الملف اليمني، أمّ إنّ ذلك إنعكاس لصراع المحاور المفترض داخل المملكة والذي تُرجِمَ تراجعاً في المواقف على الأرض في سوريا لاسيما في الجبهة الجنوبية، الأمر الذي سمح بتخفيف العبء على النظام السوري وحلفائه وأعطاهم الفرصة للهجوم على حلب ومناطق أخرى وأدّى إلى دخول قوات الأسد لداريا لأوّل مرّة منذ أكثر من أربع سنوات من الحصار والقتل.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، قبل أيام أجرت قناة العربية مقابلة مع فتح الله غولن المتّهم الأوّل بتدبير الانقلاب في تركيا، لكن سرعان ما تمّ حذفها من على الموقع الإلكتروني ومن على اليوتيوب الخاص بالقناة. لقد تسبب الأمر ببلبلة كبيرة دفعت الجانب التركي إلى أن يطلب من الجانب السعودي إزالة المقابلة فوراً بالرغم من محاولة القائمين على القناة تصحيح الوضع لاحقا ورأب الصدع من خلال خطوات لم يعلن عنها تتضمن اقتراحا باستضافة شخصية بارزة كبديل.
ليس هذا فقط، لقد كان من المفترض أن يكون هناك صوت قوي للمملكة في العمليات التي قامت بها تركيا قبل أيام في جرابلس والتي من المتوقع أن تستمر –نظريا على الأقل- إلى أن يتم تشكيل منطقة آمنة، لكن هذا لم يحصل. التدخل التركي يصب أولا وأخيرا في صالح المملكة ومن المفترض أن يتم استغلاله بشكل جيّد قبل وخلال وبعد المفاوضات المزمع عقدها بين الأطراف السورية وذلك لقطع الطريق على أي تقدّم مفترض لتفوذ إيران في سوريا، هذا النفوذ الذي سيكون موجّهاً بالضرورة ضد المملكة العربية السعودية.
خلاصة القول، هناك حاجة لمراجعة سريعة لما يجري على الصعيد الإقليمي، وأن تعيد المملكة التقاط أنفاسها وتصحح بعض العثرات في مسارها وتبقي على الزخم الذي جاءت به مع تولي الملك سلمان للحكم وأن تكون حاضرة بقوّة وبسرعة وبفعالية في الأحداث الهامّة في المنطقة، لا يمكن لتركيا أن تتخلى عن السعودية اليوم في هذه الملفات ولا يجب أن تتخلى المملكة عن تركيا أيضا.
المصدر : عربي 21