لمدة ست سنوات لم يتغيّر الشعار: لا حل قبل إزاحة بشار الأسد. ذلك كان شرط المعارضة السورية المسلحة، ومن ورائها تركيا والولايات المتحدة ودول عربية محافظة، لدحر الإرهاب.
أسست هذه الدول «التحالف الدولي» لمحاربة «داعش». دخلت تركيا الأراضي السورية بدعوى مواجهة «داعش» وقطع الطريق على «قوات حماية الشعب» الكردية (قسد) التي تبتغي السيطرة على كامل المناطق السورية من الحسكة شرقاً إلى عفرين غرباً، كما فتحت حدودها على مصراعيها ليتدفق عبرها الرجال والسلاح والعتاد إلى «داعش» و»النصرة». دعمت «اسرائيل» التنظيمات الإرهابية في الشريط الحدودي بمنطقة القنيطرة ونقلت جرحاها إلى مستشفياتها. قامت الولايات المتحدة اخيراً وليس آخراً بإنزال قوات ومدرعات لها في منبج والطبقة وبتسليح «قسد» وتكليفها تخليص الرقة، عاصمة «الخلافة»، من «داعش».
حدث كل ذلك و»داعش» ما زال ناشطاً في معظم المناطق التي كان سيطر عليها في شمال سوريا وشرقها. فجأة نطق وزير خارجية امريكا الجديد ركس تيلرسون بقولته العصماء: «الشعب السوري سيقرر مستقبل الرئيس بشار الأسد». رجب طيب اردوغان لم يتفوّه بعبارة مماثلة، ليس لأن الشعب التركي سيقرر مستقبله في الاستفتاء على تعديل الدستور خلال الشهر الجاري، بل لأنه أوعز إلى رئيس حكومته بن علي يلديريم بإعلان «انتهاء عملية درع الفرات في شمال سوريا». روسيا كانت تنتظر أن تتراجع واشنطن عن دعوتها إلى إزاحة الأسد، وأن تعلن أنقرة ما قاله يلديريم، فاكتفى فلاديمير بوتين بتأكيد استعداد موسكو للتنسيق مع واشنطن ضد «داعش».
دمشق لم تعلّق على كل ما قيل بشيء لافت. هي لم تكترث طيلة السنوات الست الماضية لكل ما كان يقوله اعداؤها. اهتمامها كان منصّباً على تحرير الأرض، فالميدان هو الذي يقرر مسار الصراع ومصيره. ما مؤدى ما قاله المسؤولون الامريكيون والأتراك؟ ما ترجمته على الارض؟
من الواضح أن لا خلاف جوهرياً بين واشنطن وأنقرة. تيلرسون قالها صراحةً في المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير الخارجية التركي مولود جاويش، الذي اكتفى بترداد تحفظ انقرة على مشاركة «قسد» في استخلاص الرقة من «داعش». لم يقل شيئاً عن اتفاق رئيسه اردوغان مع تيلرسون على أن الهدف الأساس في هذه المرحلة هو «تحرير الرقة وإعادة السيطرة عليها… ووضعها تحت السيطرة الأمنية المحلية»، اي بمعزل عن الأتراك والجيش السوري. كما لم يشر إلى موافقة اردوغان على اعتزام الامريكيين إقامة «مناطق آمنة» في شمال سوريا.
الصورة اصبحت واضحة: الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ مخططها الرامي إلى تقاسم سوريا (والعراق ايضاً) بين قوى اقليمية نافذة على نحوٍ يخدم «اسرائيل» من جهة، ويُسهم في الحدّ من نفوذ ايران من جهة اخرى. الشواهد والمؤشرات كثيرة، ابرزها ثلاثة:
اولاها، أن واشنطن أقنعت انقرة بأن «مناطقها الآمنة» في شمال سوريا ستشكّل بمجرد وجودها حاجزاً يحول دون تمدد القوات الكردية من الحسكة إلى عفرين. ثم هناك ضمانة اخرى: الوجود الروسي المستحدث في تلك المنطقة عينها. هذا الترتيب يوحي بأن ثمة اتفاقاً امريكياً – روسياً- تركياً بتعويض الاكراد السوريين مشاركتهم في دحر «داعش» بترتيبات سياسية لاحقة تعطيهم ما هو اكثر من سلطة حكم محلي تسمح به دمشق، وأقل من حكم ذاتي كانت «تكرّمت» به واشنطن على اكراد العراق بعد احتلاله عام 2003.
ثانيها، أن دحر مقاتلي «داعش» في الرقة سيؤدي بالضرورة إلى دفعهم للانضمام إلى اخوتهم في محافظة دير الزور، حيث يسيطرون على قسم من من عاصمتها، كما على مساحة واسعة من هذه المنطقة المحاذية لمحافظة الانبار العراقية. الواقع أن «الدواعش» ما زالوا يسيطرون على معظم الانبار وصولاً إلى حدود العراق مع الاردن. هذه المنطقة الواقعة على جانبيّ الحدود السورية – العراقية تريدها واشنطن مشروع كيان- اسفين لفصل سوريا عن العراق، وبالتالي عن ايران. غني عن البيان أن تحقيق هذا المشروع يخدم اغراضاً عدّة في آن: تقسيم سوريا والعراق، الحدّ من نفوذ ايران، وتعزيز أمن «اسرائيل» في وجه اعدائها الاقليميين.
ثالثها، إبقاء الحرب في سوريا وعليها ناشطة بوتيرةٍ تتيح للولايات المتحدة الضغط على دمشق، عسكرياً وسياسياً، على نحوٍ يخدم مخططها التقسيمي الآنف الذكر. ذلك أن وحدات سورية من «الجيش الحر» مندرجة في قوات «ردع الفرات» أعلنت رفضها الانسحاب من مواقعها واستمرارها في القتال ضد «داعش» وضد… الجيش السوري. التنظيمات «الإرهابية المحتشدة في محافظة ادلب تحت قيادة «النصرةٌ» مستمرة هي الاخرى في مقاتلة الجيش السوري بعدما باشرت، بالتزامن مع انزال القوات الامريكية في منبج ومحيط الطبقة، بتسخين الجبهة ضد الجيش السوري في جوبر بريف دمشق الشرقي، وفي ريف محافظة حماة الشمالي، وفي درعا والشريط الحدودي المحتل بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي. كل هذه الجبهات المفتوحة ضد دمشق وجيشها سيجري تصعيد وتيرتها القتالية بغية استنزاف سوريا وإضعاف صمودها العسكري والسياسي.
يتحصّل من مجمل هذه الشواهد والمؤشرات أن ما جرى ويجري مؤخراً، سياسياً وعسكرياً، في الساحة السورية لا يتعدّى كونه تغييراً لفظياً لشعار «إسقاط بشار الأسد» مع بقاء هدف الحملة ضد سوريا على ما هو عليه: تقاسمها ارضاً ونفوذاً ومصالح بين تركيا و»اسرائيل» وإقامة كيانات أو جمهوريات موز هزيلة تدور في فلك الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين.
دمشق وطهران وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية تدرك أبعاد المخطط الامريكي وتداعياته وتنخرط في مقاومته. لكن علامة استفهام كبيرة ما زالت ترتسم فوق رأس موسكو، ذلك أن روسيا دولة نووية كبرى وهي تُقارب الاحداث والسياسيات والمخططات على مستوى عالم واسع تتشابك فيه الادوار والمصالح والقدرات مع دول كبرى، اولها واخطرها الولايات المتحدة وشبكة تحالفاتها الدولية والإقليمية، فكيف ستتصرف؟
باختصار، الحرب في سوريا وعليها ما زالت مستمرة وستزداد اضطراماً، ولا يجوز معها الاطمئنان أو التهاون.
المصدر : القدس العربي