سينشغل السوريون، كما آمل بصدق، بنقاشاتٍ، بل وبجدالات، حامية حول مسألة تضمين الدستور السوري العتيد بنداً يقول “الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع والقوانين”. ولا يصدر أملي هذا أبداً من حبي الجدل، وتشجيعي الخلافات الدفاعية بالمرة. بل من قناعةٍ قوية بضرورة القياس النقدي لمسألة اعتبار التشريع الإسلامي أحد مصادر القوانين في سورية التي نحلم بها. ليست المشكلة في أن هذا التشريع المقصود ذو هوية دينية معينة، إسلامية تحديداً، فموقفي سيكون واحداً لو كان التشريع الذي تتم الدعوة إلى جعله أحد مصادر القوانين تشريعاً ذا هوية مسيحية مثلاً. ليست المسألة في هوية هذا التشريع الديني الضيقة. المسألة في طبيعة (ودلالات) فكرة “شَرع” بحد ذاتها، وما إذا كان “التشريع” يصلح أحد “مصادر” وضع القوانين التي تحكم حياة الناس والمجتمع في أي منظومة حكم وإدارة سياسية ودولتية أم لا.
لننتبه إلى خلط مفاهيمي شائع في العالم العربي، وهو بين مفهومي “تشريع” و”قانون”. لا بل إننا نستعمل، في اللغة العربية، في خلط إشكالي جداً، كلمة “مُشرِّع” لتسمية واضع القوانين في ترجمة للكلمة الأنجلو- ساكسونية (legislator/lawmaker). سبب استخدامنا كلمة مترجمة عن ثقافة أخرى أننا نجد، في تاريخ فكرة القانون في الحضارة الإسلامية، مفهوم “شَرَّعَ” (ومنها كلمة “شارع”)، ومنها جاءت مفردات “تشريع” و”شريعة”. ومع أنَّ المشرق في ثقافاته غير الإسلامية، مثل الثقافة اليهودية والسريانية والمسيحية البيزنطية، احتوى مفهوم “قانون” (من كلمة canon)، إلا أنَّ المفهوم، ومعه المفردة التي هيمنت على المخيال الفكري لأهل الحضارة العربية – الإسلامية هي “تشريع” و”شرع”. ولكن، دلالات “شرع” و”تشريع” تختلف عن دلالات “قانون” و”قوننة”، وكل منهما معنية بجوانب تتعلق بالتفاعل البشري المجتمعي والقيمي والسياسي (بمعنى “شأن عام”) تختلف في ماهيتها جدياً عن الأخرى.
لنتذكّر أن مفهوم “دولة” (state) دخل إلى الفكر العربي – الإسلامي المعاصر في عصر الحداثة. ولنتذكّر أنَّ مفهوم “قوننة” و”قانون” اقترن في التاريخ السياسي والقانوني في الغرب (منشئ الفكرة الأم) بفكرتي “دولة” و”مجتمع مدني”. تذكرنا لهذا يجعلنا نستنتج أن جعل “التشريع” (أي حالة تشريع، ناهيك عن طبيعته الدينية) أحد مصادر “القوننة” ما هو إلا محاولة توظيف أداة وفعل ما في تشكيل وخلق شيء يختلف عن تلك الأداة في الماهية وفي الوظيفة وفي الهدف: كأننا نحاول أن نصنع بيانو بريشةٍ للرسم. تعلقت كلمة “تشريع”، في أصلها الإيتيمولوجي التاريخي، بجوانب تدور حول “السلوكيات والمعاملات”.
خلافاً لذلك، تعلقت كلمة “قوننة” بجوانب تدور حول “الحقوق والواجبات”. مسألة السلوكيات والمعاملات أخلاقية وقيمية، تتعلق بالفرد وعلاقته السلوكية بالجماعة. في حين أنَّ مسألة الحقوق والواجبات حقوقية، تدور حول المسؤولية والدور والعدالة في سياق الإدارة والعمل العام والحيثية المدنية والمواطنية: حين تعاقب القوانين قاتلاً ارتكب جرماً على فعله لا تعاقبه على قاعدة منطقٍ، يقيّم أخلاقه وسلوكياته الفردية الشخصية (لهذا لا تعني القوانين ما إذا كان المجرم متديناً أم لا، أو أباً محباً لأولاده أو لا مثلاً، هذه مناحي تهتم بها التشريعات والسنن)، بل على قاعدة إخلاله بمسؤولياته المدنية العامة، وتعديه على حق الآخرين بالحياة (هذه مسألة تهتم بها القوانين).
لننتبه إلى أن عملية إقحام فكرة “الشريعة الإسلامية أحد مصادر القوانين” جرت في تاريخ الفكر العربي – الإسلامي في العصر الحديث، وليس قبل ذلك. وهي نتاج اجتهاد قامت به الإسلاموية السياسية العائدة لمطلع القرن الماضي، بدءاً من سيد قطب واعتماده على فكر ابن القيم الجوزية السياسي، والذي دعا صاحبه إلى خلق “دولة إسلامية”، تقوم على الشرع الإسلامي، كي تضمن التزام أبناء تلك الدولة بسلوكيات الدين الإسلامي وأخلاقياته وسننه. لم يقدّم صاحبنا الدولة الإسلامية تصوراً سياسياً، بل بديلاً عن الدولة السياسية: “إسلامية” هنا تصبح “بديلاً عن “سياسية”، وليس أحد أشكالها، و”شريعة” تصبح بديلاً عن “قانون”، وليس في الواقع “أحد مصادرها”. يدعونا إدراكنا هذا إلى التمهل قليلاً والتمعن في التفكير، قبل أن نتبنى هذا الخلط، ونسعى إلى تطبيقه على عواهنه ومثالبه.
أتمنى على السوريين أن يتوقفوا بجدية عند فخ الخلط بين “تشريع” و”قوننة”، وأن يدركوا سواء أكان المُدرِك دينياً أم لا، كي لا يدعم اقتراحاً كهذا” خطورة اعتبار أي تشريع ديني أحد مصادر القوننة لا يصنع “قوانين”، ولن يكون سوى محاولة لتشويه فكرة “قانون” وإيجاد بنية هجينة مشوهة. ليست المشكلة في أن التشريع ذو ماهية دينية أو إسلامية. المشكلة هي في أن منطق “تشريع” يختلف بنيوياً وكلياً عن منطق “قوننة”. الدول والمجتمعات المدنية هي كيانات جمعية تعدّدية بجوهرها، ولا يمكن بناء القواعد الناظمة لحياة المجاميع المواطنية فيها على شرائع تتعلق بسلوكيات الفرد وأخلاقياته ومعتقداته. يلعب التشريع دوراً في سياق العلاقات المجتمعية بين الأفراد بعضهم بعضاً. ولهذا، للدين وتشريعاته دور مهم وفاعل في الحياة اليومية للناس. ولكن، على مستوى إدارة الدولة وقوننة حقوق أفرادها وواجباتهم، ومسؤولياتهم تجاه وجودهم الدولتي والمدني، القوانين الوضعية الصرفة وحدها المنوطة بهذا، لأن هذه طبيعتها ومهمتها بالأساس.
سأكون من المتردّدين جداً جداً في دعم اقتراح أن تكون الشريعة الإسلامية أحد مصادر القوانين في سورية المستقبل. لا يحتاج المرء أن يكون علمانياً ليتحفّظ على هذا الاقتراح، ولا يدل التحفظ على علمانية بالضرورة. يكفي إدراك الاختلاف البنيوي بين “شريعة” و”قانون”، سواء أكان المُدرِك دينياً أم لا، كي لا يدعم اقتراحاً كهذا.
المصدر : العربي الجديد