فيما يمضي الوقت سريعاً نحو موعد انعقاد “مؤتمر الرياض 2” للمعارضة السورية، يثور نقاش كبير في هذه المعارضة بشأن النتائج “الممكنة” والنتائج “المتوقعة” له، وعمّا إذا كان ذلك سيؤدي إلى “توحيد المعارضة” وخروجها بـ “وفد تفاوضي موحد”، أم أنه سيمزّقها من حيث أراد لها اللاعبون الدوليون والإقليميون الوحدة. وتتزامن الدعوة إلى المؤتمر مع اقتراب نهاية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية، والدخول في مرحلة جديدة، ليس بالضرورة أنها ستفضي إلى حل سياسي في المدى القريب، على حد تعبير وزير الخارجية الألماني، زيغمار غابرييل، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره اللبناني، جبران باسيل.
لكن هذا التزامن مع ذلك يمنح المؤتمر بالطبع زخماً إضافياً، إذ يوحي بأنه استعداد لمرحلة تسوية سياسية تطرق الأبواب. ويأتي مؤتمر الرياض المقبل بعد إعلان المعارضة السورية مقاطعتها مؤتمر سوتشي الذي تريد موسكو عقده للحوار مع النظام، والمضي نحو تجاوز مسار جنيف من خلال الاتفاق على “تعديل دستوري” تعقبه “انتخابات”.
وعلى الرغم من أن كثيرين ظنوا أن الروس عدَلوا عن فكرة “سوتشي”، إلا أن الأخيرين سرعان ما أصروا على عقده، بعد الإعلان عن موعد مؤتمر الرياض. وعلى الرغم من أن الفكرة السائدة بأن “سوتشي” مجرد فكرة روسية مرتجلة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وأنه لم يكن سوى تهديد للمعارضة بنقل المسار السياسي من جنيف، إلا أن محاضر الاجتماعات بين العسكريين الروس وفصائل المعارضة العسكرية في أنقرة، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، تؤكد أن الروس طرحوا فكرة المؤتمر نفسها على المفاوضين باسم الفصائل، على أساس أن تفاهمات أستانة ستكون عسكرية وسياسية معاً، بغرض تجاوز المعارضة السياسية التي يمثل تمسكها ببيان جنيف1 ورحيل الأسد قبل بدء المرحلة الانتقالية عقبةً لا بد من تجاوزها.
وفي الواقع، يأتي الإعلان عن مؤتمر الرياض المرتقب بعد اتفاق روسيا والولايات المتحدة على اتفاقٍ بشأن المليشيات الأجنبية، وتحديداً الإيرانية، وإخراجها خارج الأراضي السورية. ومن الصعب رؤية مصلحة إقليمية في الظروف الراهنة في إضعاف المعارضة السورية، في ظل التوجّه للتصدّي للنفوذ الإيراني، إذ يفترض أن تنظر الدول المعنية بإخراج إيران وإضعاف نفوذها في سورية إلى المعارضة على أنها من أهم الوسائل السياسية التي يمكن الاستفادة منها في مواجهة الإيرانيين. والحال أن عقد “الرياض 2” جاء لعدة أسباب، أولها الرغبة الإقليمية في مقايضة روسيا ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية في مقابل تكفّلها بإخراج القوات الإيرانية. ولكن من يضمن ذلك؟ وهل تستطيع روسيا إخراج القوات البرية الإيرانية؟ ثم ها هي إيران تصنّع مليشيا شيعية محلية، على غرار حزب الله (اللواء 133) في درعا (مؤلفة من متشيعين جدد وشيعة وافدين تم تجنيسهم وشيعة من مناطق أخرى) بإشراف وتمويل وتسليح وإدارة مباشرة منها، تحسباً لأي طارئ؛ فهذه القوة شكلياً ليست “قوات أجنبية”. وثانيها نتائج مفاوضات جنيف 4، حيث ارتكب وفد الهيئة العليا للمفاوضات خطأ جسيماً بقبول منصتي القاهرة وموسكو شركاء في المعارضة في مواجهة النظام، ما أدى إلى سلسلة من التنازلات، فقد كان ذلك اعترافاً مباشراً بأن الهيئة لا تمتلك الشرعية الكافية لتمثيل المعارضة، فبتنا نتحدث عن معارضات.
وهكذا نجحت موسكو بالتعاون مع مبعوث الأمم المتحدة، استيفان دي ميستورا (ينفذ أجندة روسية) في تمزيق المعارضة، بحجة أن قرار مجلس الأمن 2254 أشار إلى مؤتمر (وليس منصة) موسكو (تتبع الخارجية الروسية) ومؤتمر (وليس منصة) القاهرة (المحسوبة على المصريين)، واستطاع دي ميستورا، في نهاية المطاف، الإيقاع بالمعارضة.
وثالثها أن المعارضة نفسها (مكونات الهيئة العليا للمفاوضات) كانت ترى في الهيئة العليا منافساً يهدد وجودها، وهكذا صار الصراع بين ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية (المكون الأبرز) والهيئة العليا، ظاهراً للعيان، ثم كان التخلص من الهيئة من مصلحة “الائتلاف” الذي فقد كثيرا من دوره بعد تشكيلها. وبالتالي كانت مكونات الهيئة العليا، بقيادة “الائتلاف”، تدفع باتجاه إعادة تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات. وصارت الفرصة سانحةً لإجراء هذا التغيير وإطاحة رئيس الهيئة، رياض حجاب، بعد جنيف 4، حيث بدأت المعارضة تتعرّض للضغط لتوحيد وفدها ودمج المنصتين المذكورتين، وطلبت المعارضة بنفسها (الائتلاف وهيئة التنسيق) عقد هذا المؤتمر، حيث أشار إليه إعلان الخارجية السعودية، في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بصراحة بأنه بناء على طلب المعارضة.
مسألتان رئيستيان تشغلان المعارضة السورية بعد الإعلان عن مؤتمر الرياض 2: الإصرار على “البقاء داخل اللعبة” السياسية، والتعاطي الإيجابي مع موضوع دمج المنصات. ومدى إمكانية أن تقبل المعارضة التحولات في مواقف الدول الإقليمية الداعمة لها. والمسألتان مترابطتان، فالمعارضة الرئيسية يتم إضعافها باستمرار، ويتم تهديدها (من الأصدقاء قبل الأعداء) بالاستبدال، وتوقف العملية السياسية، والذهاب إلى حلول تديرها دول إقليمية ودولية، بغياب معارضةٍ يمكن التفاوض معها للوصول إلى حل سياسي. والواقع أن دفع المعارضة إلى التنازلات وخلخلة صفوفها لم يتوقف من الجميع، وذلك لانعدام وجود استراتيجية مشتركة بين “الحلفاء” من جهة، وتعارض مصالحها من جهة ثانية، ولعدم استقلالية قرار المعارضة من جهة ثالثة.
وحتى يمكن للمعارضة السورية الحالية أن تبقى، لابد أن تتلاءم مع التغييرات في رؤية الدول الداعمة لها، وعلى الرغم من مكابدتها في مواجهة الضغوط التي تتعرّض لها، وحفاظها على الحد الأدنى من مطالب الثورة السورية طوال السنوات الست الماضية، إلا أنها الآن أمام ضغوط لإجراء تغيير جوهري في رؤيتها السياسية، فيما يتعلق بمسألة بقاء بشار الأسد التي تمثل عقدة الحل السياسي في سورية. والمشكلة التي تواجهها المعارضة الآن أنها إذا قبلت بهذا التغيير، ستفقد شرعيتها الشعبية بالكامل، فهدف كل ما حدث في سورية كان تغيير النظام المتمثل برأسه بشار الأسد، خصوصاً أن هذا التغيير مجاني، وليس له أي مقابل! فما بعد التنازل ليس سوى تنازل آخر ينتظر المعارضة؛ فلا أحد يتوقع أن مفاوضات جدية ستجري في جنيف قريباً، وإنما المتوقع هو مزيد من التنازلات، بحيث يتم نسيان “الانتقال السياسي” في جنيف 8، ويتم الانتقال مباشرة نحو “الدستور” و”الانتخابات” (تماماً كما يريد الروس)، كما أعلن ذلك دي ميستورا في إحاطته مجلس الأمن أخيرا. وإذا رفض ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية التنازل، لن يكون بإمكانه تحقيق دمج للمنصتين في الهيئة العليا الجديدة للمفاوضات.
وإذا ما نجح “الائتلاف” في الالتفاف على بيان الرياض1، واستطاع تجاوز الخلاف الجوهري بشأن بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية (منصة القاهرة ترفض أي إشارة إلى عدم بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وتصر على أن يكون ذلك محل تفاوض، في حين ترفض منصة موسكو الإشارة إلى عدم بقائه، وترى ضرورة بقائه في المرحلة الانتقالية، تفضل النص على ذلك) بتجاهل ذكره من الأساس، أو عبر ذكر ذلك بعبارة عامة قابلة للتأويلات متناقضة، مثل “عدم القبول بأي دور للأسد في مستقبل سورية”، أو حتى التصريح به، فإنه سيكون أمام امتحانات عدة متتالية، فيما إذا تجاهلنا حقيقة أن أي غموض أو صمت في الصيغة سيكون بمنزلة إعلان عن تغيير في موقف “الائتلاف” والمؤتمرين معه، وسيكون بذلك قد أطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى له من تأييد.
الامتحان التالي الذي سيواجهه هو الانتخابات للمستقلين، فالمؤتمرون الذين سيتجاوز تعدادهم 144 عضواً، نصفهم من المستقلين، سيكون عليهم انتخاب هيئة عليا جديدة للمفاوضات، مؤلفة من 33 عضوا تقريباً، حتى يستطيع ضمان أن ما تبقى من الرؤية السياسية للمعارضة سيتم الحفاظ عليه. وبالتالي، عليه أن يضمن نجاح 60%+1 على الأقل من المستقلين المؤيدين لهذه الرؤية السياسية. وفي حال فشل ذلك، سيؤدي إلى إضعاف تأثير “الائتلاف” في الحل السياسي، وستسيطر عليه المعارضة القريبة من القاهرة أو موسكو، وبذلك تكون المعارضة مرة أخرى شارفت على النهاية فعلياً.
وإذا ما نجحت المعارضة الأساسية في تجاوز امتحان انتخاب الهيئة العليا، فإنها ستواجه امتحاناً جديداً في تشكيل الوفد المفاوض الذي يتوقع أن يتألف من قرابة 15 عضواً، نصفه على الأقل، وبالضرورة، محاصصة بين المكونات، فحتى تحافظ على الرؤية السياسية من مزيد من التدهور عليها أن تضمن أمرين: رئاسة الوفد وأغلبيته المطلقة (50%+1) مرة أخرى، ودون ذلك معركة كبيرة، إذ سيكون عليهم الحسم في عدد المستقلين الذين يفترض أن تتاح لهم نسبة تكوينهم الهيئة العامة للمؤتمر؛ أي نصف المقاعد.
وإذا ما نجحت المعارضة الأساسية في امتحان تشكيل الوفد سيكون لديها امتحان جديد حول آلية عمل الوفد، هل هي التوافق، أم هي التصويت؟ وإذا ما ذهبت إلى التصويت، ستكون قد حافظت على المستوى الذي آلت إليه الرؤية السياسية في البيان الذي سيصدر عن المؤتمر.
ولكن إن ذهبت إلى التوافق (الإجماع عملياً) فسيكون بمقدور موسكو بنفسها التحكّم في الوفد عبر “فيتو قدري جميل” المعطل في الوفد المفاوض، وبهذا يكون بيان المؤتمر وكل المرجعيات السياسية بدون قيمة، وقرار المعارضة يصبح فعلياً في موسكو!
وحتى تتجنب القوى السياسية في مؤتمر الرياض الازدواجية في المرجعية في الهيكلية القديمة من خلال انفصال الوفد المفاوض عن عضوية الهيئة، ستعمل الهيئة على أن يكون الوفد المفاوض من الهيئة، وسيكون رئيس الهيئة هو نفسه رئيس الوفد المفاوض. وبالتالي سيتيح ذلك توحيد المرجعية، لكن ذلك سيكون على حساب إلغاء هامش المناورة الذي كان يتيحه انفصال الوفد عن مرجعيته، وهو ما سيتيح أن يكون الضغط على الوفد المفوّض سهلاً ومباشراً، ويكون ما يقوم به ملزماً من دون حاجة للعودة إلى أي مرجعية أخرى. وهذه آلية خطيرة جدا في ظل ضعف المعارضة، وستؤدي إلى عواقب وخيمة، إذ سيكون رئيس الوفد صاحب القرار فعلياً في مصير الحل السياسي في سورية.
ولأن المؤتمرين عانوا من منافسة الهيئة العليا للمفاوضات التي حاولت أن تحل محل كل المعارضة، وتلغي دور الكيانات السياسية، فإن الهيئة الجديدة ستقوم على أساس “مرجعية المكونات” (الائتلاف، الفصائل، هيئة التنسيق، منصة القاهرة، منصة موسكو)، وليس مرجعيتها الذاتية، كما كان في الهيئة السابقة، فـ”المؤسسة عضو، والموجودون باسمها في الهيئة موجودون بصفتهم الاعتبارية ممثلين عن مؤسستهم، لا عن أنفسهم”. وهو أمر يعني، على الأرجح، أن القرارات ستكون بالتوافق، وهو أمر يلغي مرجعية بيان المؤتمر المرتقب عملياً، حتى لو صرَّح بعدم قبول وجود الأسد في المرحلة الانتقالية، على ما في ذلك من صعوبة.
تشكيل هيئة عليا للمفاوضات ووفد مفاوض في إطار توحيد المعارضة سيكون امتحاناً صعباً لقوى الثورة. وسيشكل على الأرجح منعطفاً بالغ الأهمية والخطورة في تاريخ الثورة، والصراع لتحقيق تطلعات الشعب السوري، واحترام تضحياته الهائلة. وأمام هذا المنعطف، ثمّة حقيقة يجب أن لا ننساها، وهي أنه بدون وجود معارضة حقيقية، حتى ولو مدمجة معها معارضات مزورة، لن تكون هنالك إمكانية لعمل حل سياسي، وستكون المعارضة في “الرياض 2” على المحك.
المصدر : العربي الجديد