مقالات

سميرة المسالمة – أبو مازن و”فتح” إلى أخطاء الثورة السورية

مقلق ومثير ذلك العنوان الغارق بهزائمنا العربية، وانتكاسات آمالنا في أن القادم جزء من مستقبلنا، فإذا به استمرار لماضينا المغلف بجملة أخطاء، تتراكب وتتداخل، لتشكل منظومة العمل الفردي العربي، في واحدةٍ من أهم قضايانا العربية، ولتلقي بظلالها على ما تبقى من بصيص أملٍ فتحت لنا الثورات العربية نافذة عليه، “مائة عام… أين أخطأنا وأين أصبنا” عنوان مراجعة استراتيجيات الحركة الوطنية الفلسطينية. ولعل أكثر ما يؤلم في هذا العنوان لسورية مثلي، ترى في تفاصيل ثورة شعبها ما يؤشر إلى أنها تهتدي بكل ما خطته حركة الكفاح الفلسطينية خلال مسيرتها الطويلة، سواء بدفع ذاتي من قواها الوطنية، أم بدفع خارجي من دول سميت “صديقة” لها، ليكون مصيرها العوم فوق جملة من أخطاء، وتدور في فلك مفاوضات لا طائل منها إلا تعداد جولاتها، ثم تستكين للحلول الجانبية من هنا، وخداع للرعاة من هناك.

مائة عام وهزيمتنا الكبرى بفقدان فلسطين تكبر مع أجيالنا، نولد على حكاياتها، ونقهر بسببها، وتجلدنا الأنظمة العربية بغطائها، ليس بين الفلسطينيين كأشخاص من نحمّله مسؤولية ضياعها، لكن بينهم من يتحمل عبء انحراف بوصلة النضال من أجلها، وتمزيق وحدة صفها، واعتبار أعداء قضيتنا أحد الأبواب المفتوحة لنا من أجل حل سلمي، نأمن له بإقامة دولة فلسطين العربية. ليست المفاجأة بأن ذلك الباب كان موصداً بوجه قضيتنا، بل الملفت أن نراهن على أن خيوط ملابس “الملك العاري” هي من ذهبٍ أو من فضة؟

ربما مفيدٌ أن تقف السلطة الفلسطينية بعد مائة عام على “خراب البصرة” أمام استحقاق النقد. ولكن ليس فقط كما جاء في كلمة للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في افتتاح مؤتمر، عقد أخيرا في رام الله، لغاية استخلاص العبر، وتصويب الأخطاء، وتطوير أساليب العمل، بل أيضاً للغاية التي رفضها عباس في كلمته التي ألقاها عنه نائب رئيس الوزراء الفلسطيني، زياد أبو عمر، بداية، عندما أشاد بفكرة المؤتمر الذي أقامه مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، وهي ضرورة “جلد الذات” عندما تكون هذه الذات قادرةً على حرف المسار، وتعطيل الحلول، والسير في دروب وعرة، لا تطيحها باعتبارها “ذات فرد”، وإنما “ذات قضية”، ليست فلسطينية وحسب، وإنما عربية وإنسانية ومصيرية. لهذا لا بد أن تكون مراجعة لإيلام النفس حتى الجلد، في محاولة لإنقاذ تلك النفس من الغرق في مصير اللاعودة، وطي ملف الأمل في إحياء المفاوضات على أساس الشرعية الدولية، وليس المسارات الجانبية التي كلفت الشعب الفلسطيني عقودا من الانتظار غير المثمر، لوعد دولتهم التي اختُصرت بسلطةٍ غير قادرة على القيام بمهام دولة، وغير القادرة على العودة لمتابعة نضالها، منظمة تحريرٍ فلسطينية تعمل في ظل الاحتلال الإسرائيلي.

لا يعني انتقادي هذا أنه رفض المبدأ، بقدر ما هو حالة خوف من أن تمضي ثورتنا السورية في ممارسة أخطائها لنصل إلى تراكماتٍ، لا يمكن بعدها أن نبني على حالة النقد أكثر من أن تكون تقوقعا في المكان، مع تغيير في أماكن أبوابه ليس إلا، فتجربتنا السورية رأت في مسار الكفاح الفلسطيني ما يمكن تمثله، فذهبت من كفاحها السلمي إلى حمل السلاح و”فصلنته”، واعتبار الأجندات الخارجية مشروعةً ضمن مسار عملها، ما أربك حالة التوافقات وإمكانات العمل المشترك، وفسح المجال أمام انقساماتٍ سلطوية تحمّل أعباءها الفلسطينيون على جانبي الضفة، وفي شتاتهم في أصقاع العالم، وهي الحالة التي لا يمكن إنكارها في الثورة السورية.

وعلى الرغم من أن الحالة الفلسطينية احتاجت عشرات السنين، لتصل إلى هذا المنعطف الخطير، بينما لم تستطع الثورة السورية تحصين نفسها أمام المال الساسي، والمطامع الدولية والإقليمية، لتتحول خلال أقل من ثلاث سنوات، من كفاحٍ مسلح من أجل الدفاع عن المدنيين وأنشطتهم السلمية، إلى كفاحٍ مسلح فصائلي، بأجندات تتقاطع أحياناً مع مقاصد الثورة السورية التي قامت لمواجهة ممارسات استبدادية من النظام الحاكم، وتتباعد في أحايين كثيرة مع تلك الأجندة السورية، بل تفترق عنها مع بعض الفصائل ذات الإيديولوجية والقدرات المسلحة، بشكلٍ يجعلها فصيلا في مواجهة المدنيين في المناطق التي سميت “محرّرة”، ومثال ذلك ما حدث في إدلب بين جبهة النصرة والمدنيين من أهالي المنطقة.

وفي الوقت الذي احتاجت المعارضة السياسية إلى مراجعة مع الذات، لتحديد معالم مشروعها النضالي، وسبر مراحل تجربتها شهراً بعد آخر، وانتزاع ما علق فيها من فطرياتٍ تغذّت على روح الثورة وأهدافها النبيلة، هربت القيادات المعارضة من هذه الاستحقاقات إلى إعادة إنتاج أخطائها تحت مسمياتٍ يطرد الواحد منها السابق له، من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة إلى الهيئة العليا للتفاوض، وأخيراً هيئة التفاوض، ما أفرز تسميةً بعد أخرى من حالة انشقاق بين الثورة بمفهومها الثوري الشعبي وبين قيادة المؤسسات المحسوبة عليها من جهة، وبين هذه القيادات وأدوارها في تشبيك العلاقة مع السوريين في الداخل، والمهجرين في العالم، ومشروع الدولة البديلة عن الدولة الأمنية التي ثار ضدها الشعب السوري.

يتوافق الإحساس بالخوف من ضياع الوقت في انتظار انتصار الشرعية الدولية للقضيتين الفلسطينية والسورية، ما يدفع الذين في مواقع القيادة إلى اتخاذ قراراتهم في التمسك بالخيوط التي تمتد نحوهم، مهما كانت واهية.

ولهذا كان خيار أوسلو تحت الرعاية غير الحيادية للولايات المتحدة الأميركية التي بقيت، عاماً بعد آخر، تؤكد بأفعالها انحيازها لإسرائيل، شريك الفلسطينيين في عملية أوسلو. كذلك فعلت المعارضة السورية عندما قبلت بمسار أستانة تحت الرعاية الروسية والإيرانية غير الحيادية، وهما يمضيان شريكين في عدوانهما على الشعب السوري، وليسا شريكين في مسار سلام كما أقنعا المعارضة نفسها، في وهم أن الشريك التركي سيكون حامياً لحقوق المعارضة، ومدافعاً عنها، وهو الأمر الذي يتنافى مع مصالح الدول وأطماعها في جسد الدولة السورية المتهالك.

ما يؤلم أن الفلسطينيين، بمأساتهم الفريدة وغير المسبوقة، يراجعون أخطاءهم بعد سنوات طويلة، والتي لا بد أن تكون في مقدمتها فردية القيادات وتفردها، وعدم مأسسة قراراتها، وهو ما يعنيه تنصل كل منهم من فخ التفاوض الجانبي، وهو ما يمكن أن يكون عبرة لقيادات المعارضة الذين يقعون، مع سبق الإصرار، في هذا الفخ، ما يجعلنا نخشى أن يجتمع أولاد السوريين وأحفادهم للبحث في أخطاء قيادة ثورتهم ومساراتها.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى