برحيل الفنانة مي سكاف، تخسر الثورة في سورية جناحاً ثورياً مدجّجاً، يوازن بقوته فصائل ثورية ما زالت تقف على خطوط المواجهة، وجسراً هائلاً ربط الثورة بباريس، عاصمة الدبلوماسية الأوروبية، وإحدى عواصم القرار المؤثرة في العالم، وستحتاج الثورة جهداً دؤوباً لترمم سقوط هذين، الجناح والجسر.
ليست مي مجرّد ممثلة وقفت مع الثورة، على أهمية هذه الصفة، ولم تركن لهذه الصفة وتستثمر مفاعيلها، على اعتبار أن مجرد انشقاقها، “كما جرت تسمية رافضي العمل في مؤسسات النظام”، تكتنز بعداً رمزياً يوفر عليها عناء المشاركة في فعاليات الثورة، وإنما كانت جملة رموز في جسد وعقل واحد.
كانت مي رمزا لنضال المرأة السورية في سبيل الحرية والكرامة، وسعيها إلى مستقبل سوري أفضل، وكانت مع رزان زيتونة وسميرة الخليل ويارا صبري، ومئات من السوريات الواعيات لمعنى الثورة وأهميتها، بوصفها صرخة شعبٍ للخروج من نفق الاستبداد الطويل وليله المدلهم، من دعائم شرعية الثورة ووجهها الحقيقي، ثورة ضد الاستبداد.
وكانت رمزاً ضد الطائفية، حينما تفتقت ذهنية أجهزة مخابرات هذا النظام على إغراق الثورة في وحل الطائفية، والزعم أن أهداف الحراك في سورية مجرد أهداف طائفية مقنّعة، غرضها الاستيلاء على السلطة لصالح “الإخوان المسلمين”. وبالتالي، فإن أي مشاركة للسوريين في هذه الثورة دعم لهذا الغرض، والذي بنتيجته سيصل هؤلاء إلى السلطة، ويفرضون النقاب ويمنعون “النص كم” والسهر، وكانت آلة الأسد الدعائية تهدف إلى عزل (وتهميش) أبناء الطوائف، غير السنية، ووضعهم في مواجهة مع بيئاتهم ومجتمعاتهم.
وكان تحدّي مي سكاف، وسوريين كثيرين من مختلف البيئات، لهذه الادعاءات، تعبيرا عن رفض هذا المنطق، وتسخيفه، عبر الإصرار على تأييد الثورة التي نادت بالحرية واعتبارها ملكا للجميع، كما أن عوائدها ستصبّ في رصيد سورية المستقبلي.
ربما خسرت مي سكاف أدواراً درامية كثيرة، كان يمكن أن تلعبها على الشاشات، وخسرت معها النجومية والشهرة التي يحلم بها كل ممثل، لكنها أصرّت على لعب أخطر الأدوار التي قد يؤديها الممثل، وهو النضال الواقعي في سبيل الحرية والكرامة، والانخراط بأحلام الشعب وعيش عذاباته وهمومه، ضحّت بالسهل المتاح، في سبيل الانسجام مع أهم دور يقوم به المثقف على مسرح الحياة.
كشفت مي ضحالة وتفاهة “حزب” المعهد العالي للفنون المسرحية، الذين حاول نظام الأسد إقناعنا أنهم نخبة الثقافة في سورية، وطالما سعى إلى تصديرهم في كل المناسبات، وإبرازهم بطاقةً رابحة، دلالة على عصريته وحداثته، لتكشف الثورة ومي وزملاؤها الذين وقفوا مع الناس أن هؤلاء المثقفين لا يجيدون الكلام ولا التعبير، وأن تلك الأدوار التي يؤدونها ليست أكثر من ترداد ببغاوي وتلقين آلي، أما إن تكلموا خارج هذه السياقات، فليهتفوا بحياة الطاغية، وإن حاولوا إظهار تعبيراتٍ أخرى، فإنهم يضعون الحذاء العسكري على رؤوسهم، أو يقبلونه في مشهد فاضح لثقافة الخضوع والخنوع.
أثبتت مي أن الثقافة ما لم تكن أداةً يوميةً لخدمة الجمهور، وتفكيك فلسفة الاستبداد، فهي ليست أكثر من عروقٍ جفت فيها الحياة، ووصلت إلى الموت من دون ضجيج أو إعلان، وأثبتت أن الثقافة ليست وسام شرف يتزيّن به بعضهم بقدر ما هي اشتباك فعلي بين الخير والشر، وصراع مع الجهل الذي يتجسّد على هيئة خرس تجاه القضايا العامة، ويتحوّل إلى جوقة نكراء، عندما تصدح للطاغية وللتفاهة.
اختارت مي الشارع لأداء أكثر أدوارها فخامة، حيث يسقط الشهداء ويُساق المعتقلون إلى معتقلات الطاغية، كانت تلك خلفيات مشاهدها يوم اعتقلتها مخابرات الأسد في حي الميدان، يوم جاءت تؤيد حق السوريين في الخروج للتظاهر من جامع الحسن، ما دامت كل المنابر مغلقة وممنوعة، وغير ذلك ليس سوى الخضوع لرواية نظام الطاغية التي تنزّ كذباً وكيدية.
عرفتها شوارع باريس، كان كل يوم بمثابة مبادرة ثورية، وما لم تكن الأيام هكذا فلا معنى لها عند مي، شاركت في عشرات المظاهرات والوقفات، ملأت ساحات باريس بالورد على الشهداء، وقدّمت مسرحيات تعبيرية في أكثر من ساحةٍ تصوّر معاناة السوريين تحت حكم الطاغية، جمعت حولها السوريين من المدن الفرنسية والأوروبية، كان من يقابلها يشعر أن الثورة في بواكيرها، وأن مشهد هتافاتها في حي الميدان وتحديها سلطة الأسد مستمر، ولم تقطعه سنوات احتلال روسيا والمليشيات الإيرانية دمشق والمدن السورية.
لم تعرف مي اليأس، حتى في أصعب اللحظات، وقبل موتها بيوم كتبت “لن أفقد الأمل، لن أفقد الأمل، إنها سورية العظيمة وليست سورية الأسد”، وكانت تؤمن إيماناً لا يفتر أن الثورة منتصرة، وأن الطغيان إلى زوال، وأن وجه دمشق سيصبح أكثر بهاءً وأصالةً، يوم يحرّرها أبناؤها من سيطرة المحتلين وعملائهم.
ما لا يعرفه إلا القلة عن مي أنها لم تفكر يوماً، على الرغم من ظروفها القاسية، بطلب العون من أحد، ولم تعنها المناصب والرتب الثورية، ولم تقارن نفسها بأحد، كانت تعتبر أن الثورة شرّفت جميع أبنائها، وهذه مكافأة مقنعة.
برحيل مي سكاف تخسر سورية واحدةً من رموزها الوطنية، وتخسر الثورة دعامة مدنية مهمة، والأمل أن يعرف السوريون أن استمرار روح مي سكاف معهم مرهونٌ بالوفاء لحلمها بالحرية والكرامة.
المصدر : العربي الجديد