يعيد قرار البرلمان البريطاني المشاركة في الحرب في سوريا للأذهان مجددا صورة مؤلمة في التاريخ العالمي والعربي للتدخل الكارثي للندن وواشنطن في اجتياح العراق عام 2003.
فكما فعلت حكومة توني بلير قبل قرابة 12 عاما من تخويف للأمة بأسلحة الدمار الشامل المزعومة لصدام حسين، قام جزء كبير من الإعلام البريطاني والآلة السياسية لحكومة ديفيد كاميرون بتخويف الشعب البريطاني من خطر «الدولة الإسلامية»، واستخدمت هجمات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) نموذجا لما يمكن للتنظيم الإرهابي العالمي أن يفعله في مدن بريطانيا.
إن خطر عمليات إرهابية ترتبط بشكل أو بآخر بـ»الدولة الإسلامية» وأساليبها وأفكارها وجمهور المتأثرين بها محتمل في بريطانيا أو في أي مكان في العالم، لكنّ المحاججة بأن قصف مدن ومناطق سورية يتواجد فيها التنظيم سيمنع هذه العمليات أمر فيه مغالطات هائلة إضافة إلى أن فيه استخفافا كبيراً بعقول البشر.
تجلّى هذا الاستخفاف بصورة مكبّرة حين وصف رئيس الوزراء البريطاني النواب الذين رفضوا التصويت على القرار والذين بلغ عددهم 223 نائباً (أي ما يعادل 36٪ من الكتلة المصوتة) بأنهم «متعاطفون مع الإرهاب»، وبحسب استفتاءات عديدة فإن هذا يعني أن ما يقارب نصف البريطانيين أيضا «متعاطفون مع الإرهاب».
تحاول مقاربة كاميرون المخيفة هذه القفز على دور بلير وبوش في «إنتاج» الحاضنة المثالية لصعود التطرّف وصولاً إلى «الدولة الإسلامية»: من حصار العراق وإذلاله وإفقاره وصولاً إلى إسقاط نظام صدام حسين وتدمير البنى التحتية للبلاد وتهشيم أسس الدولة العراقية وحل الجيش واختراع نظام طائفيّ مركّب على أسس مذهبية وإثنية جعلت لإيران اليد الطولى فيها، فصارت الكوادر العلمية العسكرية مطاردة من قبل طهران وإسرائيل، وتراجعت الكتلة السنّية من متن الحياة السياسية والاجتماعية إلى هوامش الإقصاء والاجتثاث والمعاناة والتنكيل الطائفي والقومي.
على خلفيّة الانتقام الاستشراقي الذي تشاركت نخب المحافظين المسيحيين الجدد واليساريين التروتسكيين اليهود في أمريكا والمؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في صنعه في العراق، ساهمت إيران والنظام السوري وعملاؤهما (وهي عمالة كانت محل تفاخر أصحابها) في السلطة العراقية المستجدة في التلاعب واستخدام التنظيمات السنيّة المتطرفة كـ»القاعدة» لتدمير القاعدة الشعبية للاحتجاجات العراقية على الاحتلال والفساد والاستبداد وابتزاز الأمريكيين والجمهور الشيعي بها، وشطر العراقيين إلى مذاهب لا تجمعها سياسة أو هويّة مشتركة.
ووصل الأمر بالرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي أن ساهما في إطلاق العناصر الراديكالية المتطرفة من السجون بعد الثورات العربية مما سرّع في صعود «الدولة الإسلامية» التي اعتبرتها تلك الأنظمة المتغولة في الشرق الأوسط سلاحها الأخير الناجع في دفن الحراك السياسي وإنهاء التعاطف العالمي مع الثورات وتحويلها إلى مبرر لحرب جديدة مشؤومة بين الغرب والشرق باسم «مكافحة الإرهاب».
يُفهم قرار الحرب البريطاني الجديد في سوريا باعتباره محاولة لإعادة تأريخ العالم من جديد بدءاً من تنظيم «الدولة»، باعتباره الخطر الإرهابي الأكبر الذي يهدد «الحضارة الغربية»، وبهذه الطريقة يجري فصل هذه المرحلة عن سياق اجتياح العراق عام 2003، وسنوات الاضطهاد التي تبعت ذلك للعراقيين السنّة، وأكثر من أربع سنوات من الإبادة المنهجية والتهجير للشعب السوري على يد نظام بشار الأسد.
يرفع هذا القرار، نظرياً، المسؤولية البريطانية والأمريكية المباشرة في خلق هذه الكارثة البشرية الهائلة التي ليس «الدولة الإسلامية» إلا مرآتها ونتيجتها.
إن إعلان الحرب على هدف ظاهري واحد («الدولة الإسلامية») ليس إلا تنازعاً بين أقران مختلفين على الفريسة السورية، (روسيا وإيران وحلفائهما من جهة، وأمريكا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى) وحرب على معنى سوريا ووجودها وشعبها، لأن قصف المدنيين في سوريا، وكل هؤلاء يشاركون فيه، لا يمكن أن يحمي المدنيين في لندن وواشنطن وموسكو، وإذا ساهم في انكفاء «الدولة» فإنه لن يلغي العوامل التي أدت لنشوئه.
تقوم موسكو، بشكل رئيسي، باستهداف كل ما يهدد الرئيس السوري بشار الأسد، وتقوم واشنطن وباريس ولندن وباريس باستهداف «الدولة الإسلامية»، وهو ما يعني، بحسبة بسيطة جدا، أن طرفاً يهاجم المعارضة وطرفاً آخر يتجاهل تكسيرها (لأن هدفه الأول هو ضرب تنظيم «الدولة»)، وهو ما يمكن اعتباره تواطؤا لتعويم نظام الأسد، وتحطيماً تدريجياً للمعارضة لدفعها لقبول «حل سياسي» مصطنع ينهي آمال الشعب السوري بحكم رشيد لبلد حر يمتلك سيادته، ويستبدله بنظام هجين جديد يشبه النظام العراقي الحالي… فيعيد بذلك تكرار فصل جديد من المأساة العربية المستمرة.
المصدر : القدس العربي