مقالات

ميشيل كيلو – سورية.. ثغرات وتراجعات في القرار 2254

بغض النظر عن الجدل الدائر بشأن إمكانية تطبيق القرار الدولي بشأن سورية، رقم 2254، والذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم 18/12/2015، فإن إصداره يعتبر، بحد ذاته، نتاج حدثين مهمين: التفاهم الأميركي/ الروسي حول المسألة الأوكرانية، والذي قام على رفع العقوبات الدولية عن روسيا، وقبول ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها، في حال قبل سكان شبه الجزيرة الأمر، في استفتاء يجري بإشراف الأمم المتحدة، ووافقت الحكومة الأوكرانية على الضم.

والحدث الثاني هو قبول الطرفين المتحكمين بالصراع في سورية بتسويةٍ تقوم على تنازلات وتوافقات متبادلة بينهما، تبدّت في بنود رئيسة، تعتبر مفتاحيةً لاتفاق الطرفين السوريين المنخرطين في الحرب الدائرة في بلادهما منذ نيف وأربعة أعوام. لم تكن هذه التسوية بين الجبارين قائمة بعد في مفاوضات جنيف 2 ففشلت، فهل يعني توفرها، اليوم، أن المفاوضات المباشرة بين السوريين ستفضي حكماً إلى حل في المدد الزمنية التي حددها القرار الدولي، وتتراوح بين ستة واثني عشر شهراً؟ أعتقد أن في تحليل القرار، ومتابعة علاقات الدولتين الكبريين، ومسارات صراعاتهما وتوافقاتهما، الإجابة عن هذا السؤال الصعب الذي تحول دونه اليوم انزياحات مهمة في القرار الدولي عن بيان جنيف 1، وزئبقية علاقات الجبارين، وما يشوبها من غموض، وتخضع له من مفاجآت.

لنبدأ بالجانب الإنساني من القرار الذي يغطي معظم ما يحتاج إليه الشعب السوري، في حال أريد له الانتقال من حال التمزق والتشتت الراهنة إلى حال يمكن التعايش معها. يدعو القرار 2254 إلى “وصول الوكالات الإنسانية السريع والآمن غير المعرقل إلى جميع أنحاء سورية، وخصوصاً في المناطق المحاصرة، وإلى الإفراج عن المحتجزين بشكل تعسفي، لا سيما النساء والأطفال”، وإلى التنفيذ الفوري لقرارات دولية، سبق أن صدرت عن مجلس الأمن، بخصوص رفع حصار النظام عن المناطق التي يجوّعها ويقصفها بالبراميل … إلخ، كما يدعو إلى “وقف الهجمات ضد المدنيين والأهداف المدنية بحد ذاتها. وضد المرافق الطبية والعاملين فيها، ووقف الاستخدام العشوائي للأسلحة، بما في ذلك القصف المدفعي والجوي”. ويقرر “عودة اللاجئين والنازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية، وتأهيل المناطق المتضررة وفقاً للقانون الدولي”.

يجب أن يكون هذا الجانب جوهر إجراءات بناء الثقة، ولا بد أن يحظى بدعمٍ مطلق من المعارضة والجيش السوري الحر، وأن يكون نقطة جوهرية وأولوية في المفاوضات والحل يعتبر الالتزام بها وتحقيقها معيار أي انخراط جدّي في التفاوض، على أن يشمل وقف قصف المدنيين القصف الروسي/ الإيراني، ويلتزم الطرف الآخر بموعد الشهرين الزمني الذي حدّده القرار الدولي لتنفيذه. ويقدم أمين عام الأمم المتحدة بعده تقريراً تفصيلياً عن التنفيذ، يحدد فيه الجهات التي التزمت به، وتلك التي خالفته. ومن الضروري أن يعلن وفد المعارضة إلى المفاوضات منذ اليوم أن تلاعب النظام والجانب الروسي/ الإيراني بتطبيق الجوانب الإنسانية من القرار 2254 سيوقف مشاركته في المفاوضات، وأنه لن يعود إليها قبل تنفيذ جميع ما نص عليه حول هذا الجانب.

ثمة نقطة أخرى تتعلق بالاجتماعات التي عقدت في القاهرة وموسكو، وحضرها سوريون بدعوة من العاصمتين، ويساوي القرار بينها وبين ما يسميه “جدوى اجتماع الرياض، الذي تسهم نتائجه في التمهيد لعقد مفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بشأن التوصل إلي حل للنزاع، وفقاً لبيان جنيف وبياني فيينا، في إطار السعي إلى كفالة التنفيذ الكامل لبيان جنيف أساساً لانتقال سياسي”. لأي سوري الحق في حضور ما يريده من اجتماعات، والقيام بما يطيب له من زيارات، وقد ذكر القرار القاهرة وموسكو في سحبة واحدة، لكن هذا لا يجوز أن يجعلنا نتعامى عن الفارق بين من اجتمعوا تعبيراً عن موقف سوري، وأولئك الذين عبرت اجتماعاتهم عن قبولهم بمواقف الدول التي دعتهم، ولم تكن في أي وقت متفقة مع مصالح الشعب، أو معبرة عنها، بل لعبت الدور الرئيس في انزياح القرار رقم 2254 عن بيان جنيف، وأن مساواة جميع الاجتماعات لا بد أن يكون مرفوضاً، وأن من يمكن أن يدعى للانضمام إلى الوفد المفاوض يجب أن يكون موافقاً على برنامج العمل الوطني الذي بلوره الائتلاف شرطاً لقبوله في الصف الوطني المعارض.

أعتقد أن تحقيق متطلبات الجانب الإنساني يجب أن يكون الهدف الرئيس الذي يمكن (ويجب) تحقيقه في المفاوضات، بالنظر إلى صعوبة تحقيق الأهداف الأخرى المتصلة بالتسوية والحل السياسي، والتي أجمل ملاحظاتي عليها على النحو التالي:
ـ فيما يتعلق بوقف إطلاق النار: نص القرار على قبول وقف إطلاق النار مبدأ عاماً، لكنه “جعل دخوله حيز التنفيذ ممكناً بمجرد أن يخطو ممثلو الحكومة والمعارضة الخطوات الأولى نحو انتقالٍ سياسيٍّ، برعاية الأمم المتحدة، استناداً إلى بيان جنيف”. بكلام واضح: لن يطبق وقف إطلاق النار قبل المفاوضات، بل بعد تحقيق نجاحٍ فيها، وسيكون تنفيذه مرهوناً بالخطوات المطلوبة نحو الانتقال السياسي، فإذا لم تتوفر هذه الخطوات لأي سبب استمر إطلاق النار، الأمر الذي يتعارض مع الموافقة على مبدأ وقفه من جهة، ويضع مصيره في يد من لا يريد حلاً سياسياً من جهة أخرى، مع التذكير بأن النظام أعلن رفضه الالتزام به في أكثر من مناسبة.

هذه مشكلة يجب أن يجد الوفد المفاوض حلاً لها مع ممثلي الأمم المتحدة أو عبر مذكرة خاصة، ترسل إلى أمينها العام، تلفت نظره إلى أن فصل تنفيذ وقف إطلاق النار عن قبول الأطراف المتصارعة به مبدأً يقوّض إجراءات بناء الثقة، ويحول دون تطبيق الجانب الإنساني من القرار الدولي، قبل أن تطالبه بجعل التنفيذ سابقاً للتفاوض، باعتباره جزءاً من حماية المدنيين السوريين. مثلما يجب لفت نظره إلى أن “تحديد طرائق وشروط وقف إطلاق النار من الأمم المتحدة، ووضع آلية لرصد الوقف يوافق عليها مجلس الأمن في موعد لا يتجاوز شهراً من تاريخ اتخاذ القرار” لا يجوز أن يخضع لقرار طرفٍ مفاوضٍ، بالامتناع عن تحقيق خطوات أولى نحو الانتقال السياسي الذي يقول القرار “إنه يجب أن يكون جامعاً، وبقيادة سورية، تتبني التطلعات المشروعة للشعب السوري”.

ـ فيما يتصل بالهيئة الحاكمة الانتقالية: يقول القرار إن الحل الدائم “للأزمة” من خلال عملية سياسية جامعة، يستهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف1 والقرار 2118، بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة، تخول سلطات تنفيذية كاملة، تعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية”.

يجعل نص القرار 2118 الذي يقول القرار 2254 “إن تطبيقه يتيح الحل الدائم للأزمة”، تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية “بداية الحل السياسي”، ويعينها أداة وحيدة لإنجاز الانتقال إلى النظام الديمقراطي. أما في القرار 2254، فهي تصير “أحد سبل الحل”، ويصير هناك من “يخولها” سلطاتها التنفيذية الكاملة، بعد أن كانت في وثيقة جنيف 1 مرجعية نفسها، وليس هناك أية مرجعية خارجها أو مخولة بتشكيلها. في الوقت نفسه، انقلبت المحافظة على مؤسسات الدولة في جنيف إلى “كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية” في القرار 2254، كيف يكون بيان جنيف مرجعية الحل، إذا كان يتم التخلي عن الهيئة الحاكمة الانتقالية، ويتم تحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات الحكومة؟

لا يجوز القبول بهذين التراجعين الخطيرين تحت أي ظرف، لأنهما يجعلان الحل أسدياً بكل معنى الكلمة، ولا مفر من أن تبقى الهيئة أداة وحيدة لإنجاز حل سياسي، هي مرجعيته التي لا مرجعية لها من خارجها، وتشكل نفسها بنفسها من دون أن يشكلها أحد. عندما يقال إنها أحد سبل الحل، وإن هناك من يخولها سلطاتها، فهذا يعني، عملياً، الإبقاء على بشار الأسد أو من يماثله في السلطة. كما أن استمرارية مؤسسات الدولة شيء واستمرارية المؤسسات الحكومية شيء آخر، هو نقيضه في حالتنا السورية.

المحافظة على الجيش مؤسسة دولة تختلف جذرياً عن المحافظة عليه مؤسسة حكومية. إنه في الحالة الأولى مؤسسة توجد الدولة بها، وفي الثانية مؤسسة حزبية تلغي الدولة، وترتبط بسلطة حكومية استبدادية مجرمة، فتكت بالشعب، بأمر من رئيسها، يعني استمرارها استمرار نظامه ورئاسته، علماً أن جيش الدولة لن يقوم، إن بقي في بلادنا الجيش الحكومي الحالي، الذي أباد شعبنا بأكثر الصور وحشية، وحاكت همجيته ما فعلته جيوش الاستعمار في مستعمراتها.

نعم لاستمرار مؤسسات الدولة، ولا صارخة للمؤسسات الحكومية الحالية التي يعني استمرارها بقاء النظام وفشل الثورة ورفض مطالب الشعب، ويناقض استمرارها مع ما يطالب به القرار، في إحدى فقراته، تجعل بحرفية نصها “تبني هذه المطالب هدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف”. هنا أيضاً، لا بد من موقف واضح لصالح الهيئة أداة وحيدة، يعني الحل السياسي تشكيلها وإنجازها الانتقال الديمقراطي، فان استبدلت بغيرها غاب الحل واستحال بلوغه. ولا بد أيضاً من موقف صريح لصالح مؤسسات الدولة، باعتبارها نقيض المؤسسات الحكومية الحالية التي لا يجوز أن تستمر، بل ولا بد من القضاء التام والناجز عليها في أي حل سياسي.

ـ وصف القرار 2254 “الحكم” السوري المنشود بأنه “ذو مصداقية يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية”، وكان “جنيف” قد جعل للمفاوضات هدفاً وحيداً، هو نقل سورية إلى الديمقراطية. هل “الحكم” الذي يذكره القرار 2254 يساوي، في طبيعته ووظائفه، النظام الديمقراطي؟ ألا يمكن أن يقوم في سورية حكم (لماذا تخلوا عن النظام لصالح الحكم؟) له مصداقية وشامل، ولا يقوم على الطائفية، من دون أن يكون ديمقراطياً؟. أعتقد أن هذا ممكن، ومرفوض، وأنه لا بد المطالبة بتصحيح هذه النقطة في رسالة المعارضة إلى أمين عام الأمم المتحدة.

ـ ليس بشار الأسد موجوداً باسمه في القرار 2254، على الرغم من أنه موجود بصلاحياته ومؤسساته. هذا مرفوض، ويعد انتهاكاً خطيراً لبيان جنيف الذي يتكرّر ذكره مرات كثيرة، مع أنه يفرغ من مضمونه في كل مرة. لا بد أن يصحح هذا الوضع أيضاً، وأن نلح على تعريف معنى الصلاحيات التنفيذية الكاملة للهيئة الحاكمة الانتقالية التي أعطاها لها بيان جنيف، وفسّرها مجلس الأمن بقرار خاص، ويقتل الخروج عليه فرص الحل والسلام، ويخرج الأمور عن نصابها الصحيح، ويبقي النظام حيث هو، ويضع المعارضة في جيبه، حسب ما يقترحه الروس في حلهم الذي يمكّن الأسد من احتوائها وإخضاعها، بعد تحويل بعضها إلى موظفين في مؤسساته الحكومية التي يريد القرار 2254 استمرارها. لا داعي للقول إن هذا يجب أن يكون مرفوضا، جملة وتفصيلاً.

ـ لا أثر لكلمة واحدة في القرار 2254 حول الاحتلالين الروسي والإيراني لبلادنا، فكأنهما ليسا عامل إفشال للحل السياسي، لمجرد أن أولهما وافق على القرار، وثانيهما احتمى به. لا بد من معرفة مصير الاحتلالين، قبل الذهاب إلى التفاوض، ولا مفرّ من وجود ضماناتٍ بأنهما ستوقفان قصف المدنيين، وستجمدان أنشطتهما العسكرية ضد الجيش الحر، وتلتزمان بوقف إطلاق النار، وانهما ستنسحبان من بلادنا قبل إنجاز الحل، وإن هذا كله يجب أن يسجل في قرارٍ يصدر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع.

ـ ما هي منظمات الإرهاب، وأين توجد، وهل سيكون للمعارضة دور في تحديد تنظيماتها، أم أننا سنقبل ما يصنفونه في البلدان الأخرى، وفق معايير لا نقرّ معظمها، لكونها تراعي أمنها، ولا تراعي أوضاعنا؟

هناك ثغرات كثيرة في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وهناك تراجعات خطيرة عن بيان جنيف، وهناك تناقضات بين فقراته ومسوغاته، وهناك، أخيراً، ضرورة لتكليف هيئة خبراء بدراسته بالتفصيل، وإصدار موقف رسمي ومعلن منه، يكون مرجعية الوفد المفاوض والحركة الوطنية السورية، ودليلاً نلتزم به أمام شعبنا. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى