مقالات

غازي دحمان – تسوية على وقع التطهير الديمغرافي

عمليات التطهير الديمغرافي التي تقوم بها إيران تحت نظر روسيا لا تشي بأن البلدين يتجهان إلى تسوية قريبة في سوريا، وخاصة روسيا التي لم يعد هناك شك بأنها تخوض حربها في سوريا في إطار صفقة كبرى، على الأقل فيها طرف ثان واضح حتى اللحظة وهو إدارة أوباما.

يشترط في نجاح عمليات التطهير استمرار مناخ النزاع لمرحلة أطول وذلك حتى يتسنى موضعة الإجراءات التي تتم في إطار هذه العملية وترسيخها، ذلك أن أي تسوية من شأنها إلغاء وتفكيك كل ما سبق من إجراءات بهذا الخصوص وإعادة الأمور إلى سابق عهدها قبل أن يحوّلها الزمن إلى واقع راسخ يصعب تغييره.

كما تشترط هذه العملية اندماج أصحاب الأرض الأساسيين ضمن جغرافية ومجتمعات بعيدة بحيث تصبح إمكانية عودتهم ضعيفة ويتحول هذا الأمر إلى أحد العناصر المساعدة على تكريس الواقع الجديد وتثبيته كحقيقة دائمة، وهذا الأمر يستلزم فاصلا زمنيا بين فترة لجوء الهاربين من بلدهم  وفترة تثبيت عملية توطين الذين يحلون أماكنهم.

ولعلّ الشرط الأهم في هذه العملية يتمثل بخلق وقائع جديدة وأحداث تجعل الطرف الآخر يخفض من سقف مطالبه ويتنازل عن حقوقه السابقة ويقبل أي شيء يعرض عليه مع إيصاله إلى قناعة بأن لا شيء مضمون وممكن وأن مجرد السلامه والاستمرار في الحياة هما بحد ذاتهما مكاسب مهمة واقتناص جرى التحصل عليه من قلب مجزرة لم يخرج منها سالما إلا كل صاحب حظ. 

أين العامل الروسي في ذلك؟

ينصب المجهود الحربي والدبلوماسي الروسي في سياق تحقيق هدف التطهير الديمغرافي، وعلى عكس ما يشاع عن وجود خلاف روسي – إيراني، وعن إستراتيجية روسية تهدف إلى التمهيد لإخراج بشار الأسد من اللعبة السورية، فإن التدخل الروسي يشكل إضافة نوعية في عملية التطهير الديمغرافي، فهو عدا عن كونه يكمل السياق الذي أسّسته إيران ووكيلها الأسد في هذه العملية ويسترشد بهما في تصميم بنك أهدافه، فهو كذلك يضيف لهذه العملية عناصر جديدة تدعم فعاليتها وذلك من خلال:

– تحطيم المجتمعات المحلية في سوريا وتدمير ركائز قوتها، حيث تركز الحملة الجوية على ضرب المفاصل الحيوية والبنى التي تساعد هذه المجتمعات على استمرار الحياة، مثل المستشفيات والأسواق ومراكز بيع الوقود وطرق مواصلات استيراد السلع والمنتجات، وذلك بهدف دفع هذه المجتمعات إلى البحث عن بدائل أخرى وغالبا ما تكون بالهجرة واللجوء.

– تحطيم البدائل العسكرية و السياسية، وذلك من خلال عمليات القتل أو عدم قبول الأشخاص الممثلين للمعارضة والتشكيك بتمثيليتهم واتهامهم بالإرهاب، ولعل الهدف الروسي من وراء ذلك هو تجريد المجتمعات المحلية الثائرة من كل عناصر قوتها و كل ما من شأنه تمكينها سياسيا وعسكريا ودفعها إلى الاستسلام.

– تقوية النفوذ الإيراني عبر منحه الفرصة للتمدد والترسخ بشكل أكبر بعد أن كادت تنهار ركائزه نتيجة صمود المجتمعات المحلية ومقاومتها له على مدار السنوات السابقة.

بالنسبة لروسيا فهي معنية بتغيير الخريطة الديمغرافية في المنطقة لاعتقادها أنها تشكّل قلب المنطقة السنية والتي تشكّل إحدى أهم دوائر إستراتيجيتها في العودة إلى المسرح الدولي باعتبارها قوة مقررة في النظام الدولي، فبالإضافة إلى الضعف الكياني في هذه المنطقة بحيث يسهل اختراقها، فإن هذه المنطقة تفتقر لأطر دفاعية على المستوى الإقليمي لمواجهة التمدد الروسي، وتهدف موسكو من هذا الانخراط في عملية التطهير الديمغرافي إلى خلق فراغات في المنطقة السنية المتاخمة لحدودها في العراق وسوريا بما يشكل إضعافا للوجود الإسلامي في القوقاز ويجرده من عمقه الإستراتيجي في بلاد الشام التي تربطه فيها روابط إجتماعية وثقافية.

على ذلك فإن التكتيكات المتوقع ممارستها في المرحلة القادمة من قبل روسيا وإيران في المجال السياسي ستتمثل بخلق مزيد من الذرائع لتعطيل العملية السياسية وتمييعها مثل عدم القبول بالتركيبة التفاوضية التي أقرها مؤتمر الرياض أو التلاعب بالتفسيرات الخاصة بالقرار 2254 وبالإطار الزمني الخاص بتنفيذ مندرجات القرار، وذلك لإدراكهما أن الزمن السوري صار يقاس بحجم عمليات التفريغ الحاصلة وكل يوم زيادة في النكبة السورية يشكّل فرصة في عملية التطهير الديمغرافي، وهنا لا بد من التنبه لمسألة مهّمة أن عنصر التكاليف المادية التي يراهن عليها العالم بأنها ستكون الجنرال الذي سيهزم إيران لا تشكّل عنصرا وازنا في حسابات إيران التي تخوض حربها في المشرق من منطلقات أيديولوجية ولا تبدو طهران معنية بمثل هذه الحسابات ما دامت قم هي من يقرر الإستراتيجيات وما دام الولي الفقيه هو من يحدد التوجهات.

المصدر : عربي 21 

زر الذهاب إلى الأعلى