مقالات

عبد الناصر القادري – قصة الشتاء السورية

منذ أربع سنوات وربما أكثر بتنا نكره المطر ، نكتئب عندما نرى برقاً ونسمع رعداً ، نخشى من الشتاء كأنه عدو قادم ، رغم أننا كنا نحبه ، كلنا يحب دمشق وهي تمطر بشكل مضاعف ، كلنا يحب الثلج وهو يهطل في جبل الشيخ وجرود القلمون ، وسهل الغاب في حماة ، حتى زيتون ادلب يتشبث بأرضه أكثر مع حلة البياض الجديدة ، لا ننسى حمص وجامع خالد مع قبابه البيضاء الساحرة ، حلب وعنفوان التاريخ كله وهو أبيض ، دمشق التي تتعب فتتكئ على قاسيون (كما أخبرنا الماغوط) ، وقاسيون المتعب من هول ما يرى على من يتكئ ، سهول حوران بيضاء كصفحة من صفحات المجد والأمجاد ، كل سورية كانت تسعد بالثلج ، لا تجد في الطرقات إلا البسمات ، الكلُ يضحك ويتمتم قائلاً ” الله يبعت الخير”  .. ولكن اليوم الأمر تغير.

فالفرحون قبل سنوات تهجروا نحو العراء ، نزحوا مجبرين إلى العنصرية القاتلة ، هربوا من الموت السريع إلى الموت البطيء ، في سورية لا مأوى فقد قصفه الطيار ابن الوطن ببرميل متفجر ، أو جندي الجيش الباسل براجمة صواريخ فأصبح لا يقي حراً ولا برداً لأنه ركام .

أصبح الفَرِحُ قديماً يمتلك خيمةً في أحسن الأحوال في سهل من سهول البقاع اللبناني ، أو حاوية سكنية في صحراء الزعتري ، أو يقطنُ عراء أطمة لأن الخيام على قلتها تطير من الرياح والعواصف ..

تقف طفلةٌ في مدينة اسطنبول خلف إحدى حافلات النقل لتدفئ قدميها من دخانها المنبعث الساخن ، يقوم شباب سورية من يشعرون بإخوتهم بحملات تبرعات شهرية ، من أجل أحذية شتوية ، وأغطية وأكسية وأوشحة و طواقٍ صوفية تقي شيئاً من الزمهرير القاسي ، يعمل الشباب ليلاً ونهاراً لأنهم يعلمون أنّه لا يشعر بالسوري اليوم إلا أخاه ومن أراد أن يشعر .

حتى في مناطق سيطرة النظام ، هناك لا تدفئة جيدة للكثير من السوريين ، فالكثير منهم قد هجّرتهم الحرب المجنونة التي يقودها النظام على الشعب ، فأغلبهم بلا عمل ، والمحروقات باهظة الثمن وغير متوفرة دائماً ، ولكن حالهم تبقى أفضل من المُهجرين اللاجئين والنازحين .

أما الشتاء مع الثوار ، يبقى المرابط على الجبهات بحالة صمود إذ كيف يقف هناك بلا مدفأة لا أدري ، حيث أنّه لا يمكن للمرابطين أنّ يشعلوا ناراً حتى لا يكتشف العدو أمكنتهم ، فهم في حالة موت مع وقف التنفيذ ، لكن التبديل مع الشباب على الجبهات كل ثلاث ساعات فيه من الروح الإيمانية التي لا تراها إلا هناك ، تتعانق الأفئدة من غير وشائج واضحة تُرى بالعين ، حتى يصبح البرد دفئاً كحالة مُحبٍ تعرق لأول نظرة خاطفة مع حبيبته .

في أحد البيوت التي كنت أزورها كثيراً ، كنا ننام على قسمين ، قسمٌ يسهر حتى الفجر ، وآخرين ينامون ، والكل ليس مضطر للسهر فهناك من يرابط ليحميهم من هجوم ما ، لكن لا أغطية تكفي في الليل ، ومع ذلك كنا لا نستطيع النوم بشكلٍ كافٍ من البرد ، تحت الأغطية نحن نرتدي كل ألبستنا ، رغم ذلك كانت العظام تصرخ زملوني .

وفي أحد المشافي الميدانية ، يوجد كثيرٌ من الجرحى يحتاجون عناية وهدوء قدر الإمكان ، لكن البرد الممزوج بجروح ودماء لم تكن مكافحته سهلة ، خصوصاً وأنّ المشفى محضونة بتراب وإسمنت ما يزيد من صعوبة تدفئتها ، الجرحى لم يكونوا سعداء في الشتاء ، وكانوا أحياناً يتمنون الموت .

في لبنان الجار الأكثر عقوقاً بسبب بعض العنصريين وآلاف المقاتلين من حزب الله الطائفي الذين فضلوا رد الجميل بقتلنا ، سعر المحروقات لا يستطيعُ عليه أغلب السوريين ، ترى الأطفال تحت أغطيتهم التي وزعتها الأمم المتحدة ، أو حول نارٍ أشعلها أحد المغامرين خارج الخيمة ، وفي أحسن الأحوال ، يسكنون في بيت أجاره ما يفوق 300 دولار أمريكي ، يحتاج شهرياً إلى 200 دولار أخرى ثمن مازوت أو حطب .

وفي الأردن الجار ذو البحر الميت تتم التدفئة على أنبوبات الغاز والتي يتراوح سعرها بما لا يقل عن 15 دولار إن كان يمتلك مدفأة الغاز ، حيث  يحتاج البيت لأربعة أو خمسة شهرياً من تلك الأنابيب .

في الشتاء رغم أنّ الخير فيه هو مأساةٌ على السوريين أينما حلوا وارتحلوا ، عراءٌ وبرد ووحل وأمراض ، خذلانٌ عربي ، وخداع عالمي ، والقاتل في جريمته مستمر، والشعب كذلك بثورته مستمر ، رغم أنّه من أقسى ما يكون طفل مات من البرد ، مع أنّ نفط العرب دائماً وأبداً لغير العرب.

ومع ذلك يبقى الثوار أشجع من ولْدَتْ سورية ، يقاتلون في أيام المطر والثلج ، يكتسحون بأسلحتهم الباردة جبهات عدونا الأول والذي يعتمد في نصره على الطيران ، فعندما تمتلئ الغيوم في السماء ، يكون حظر الطيران الحربي ربانياً ، يحررون بهممٍ لم أرى لها مثيلاً ، حينها ترى بندقية الثائر تكبر ، وتهلل ، لا يكترثون لراحتهم ، ينغمسون في المعركة وكأنها نزهة ، وينتصرون بهمة إلهية . ويعودون فينامون في دفئ ليس كافٍ ، لكن الواجب جعلهم أكثر سعادةً والسعيد عادةً لا يبرد ولا تفتر همته ، دوماً هو على استعداد للمعركة القادمة ولو كانت العواصف في وجهه ، هو بايع حتى النصر ، أي في صيف حارق وشتاء متجمد ، حتى يحيا أطفال سورية وأهلها في بيوتهم بدفء عادل وكرامة دائمة .

أجمل لحظةٍ في عمر الثائر المرابط هي كأسٌ من الشاي الساخن المُحلى ، تأتيه من حيثُ لا يعلم ، يُشعل سيجارته إن كان مدخناً حتى يزيد من دفئه بنارها . قصة الشتاء لا تنتهي في سورية ، هي مرةٌ جداً ، لكنها في سبيل قضية لنصرها دفءٌ لا بد أن نراهُ ونشعر به .

المصدر : خاص لـ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى