يفتحُ الصراع الحاصل في غوطة دمشق الشرقية سؤالاً أكبر من نطاقه الزماني والمكاني، يمتدّ ليلامس مستقبل السوريين وبلادهم التي أنهكتها الصراعات، داخلية وخارجية، واستنزفت قدراتهم لاحتواء هذه الصراعات، والوصول ببلدهم إلى برّ الأمان.
ليست هذه السطور في معرض الكتابة عن أسباب الصراع في الغوطة وتفنيده، ولا الإشارة إلى الأطراف المتصارعة ونقدها؛ فقد فنّد كُثرٌ ما يحصل، وعرضوا أسبابه، وحتى مآلاته في حال استمراره.
ما يجري في الغوطة اليوم ليس سوى صورةٍ مصغرةٍ عن النار الكامنة تحت الرماد في كل مدينة وبلدة محرّرة، حيث عشرات التشكيلات العسكرية المختلفة المشارب والمآرب، أضف إليها بعض التشكيلات ذات البعد الإيديولوجي التي بإمكانها أن تزكي نار الصراع الكامن، وتفجّره في أي وقت، وقد شهد الشمال السوري وحتى الجنوب بعضاً من هذه الصراعات، كان بعضها تحت يافطة قتال تنظيم الدّولة الإسلامية، وكان بعضها الآخر صراعاً واضحاً على النفوذ والمصالح.
حار كثيرون من مؤيدي الثورة السورية، عرباً وعجماً، من تعدّد الفصائل، وسعى كثرٌ أفراداً وجماعات، وأحياناً دولاً، لتجاوز هذا العدد الكبير، والعمل على إدماج بعض الفصائل ببعضها، ونجحت بعض التجارب فيما توّج الفشل أكثرها. ويستطيع المتابع الجيد لسيرورة الثورة السورية الوقوف على السبب الرئيس لتعداد الفصائل، وهو صراعُ النفوذِ والمصلحة، ومردّهُ إلى الفصائل، أولاً، من ثمّ الدول الراعية لها.
لن نطيل في شرح أسباب هذا التعدّد، بل الأهم ما هو مستقبل سورية في ظل هذه الفصائل المتناحرة، والتي بيدها معظم أمور الداخل السوري، وجزءاً غيرَ هيّن من القرار السياسي حالياً. ولست، هنا، في معرض الهجوم عليها، وإنما المستشفُّ لمستقبلٍ يراهُ السوريون في كل يوم يمضي نحو المجهول أكثر فأكثر، فالشعارات التي أطلقت، في بداية الثورة، وردّدها المتظاهرون في الشوارع أصبحت مفرغةً من معانيها في أتون هذا الصراع.
لا يستطيعُ أحدٌ إنكارَ ما قامت به الفصائل من تضحياتٍ وقتال لنظام الأسد وشركائه، ولأنها جزء أصيل من ثورة السوريين ومستقبلها، يجب أن تكون جزءاً من الحلّ، وليس من الفشل الذي نسير إليه اليوم بخطى ثابتة. ولا يتعلق هذا الحلّ بالفصائل وحدها، وإنّما بكل السوريين الذين آمنوا بالثورة وقيمها في داخل سورية وخارجها، فعليهم أن يضغطوا نحو هذا المسار الذي لا غنى لنا عنه، وليس السوريين أفراداً وحسب، وإنما كل مؤسسات المجتمع المدني والهيئات والروابط العلمائية والجماعات والتيارات السياسية الوطنية يجب أن تتفاعل معه، وتضغط باتجاهه.
كلنا يتابع الحراك الدولي، في هذه المرحلة، ويرى كيف يتم فرض حل سياسيٍّ بالقوة لا يلبي طموح السوريين، ولا يأبه بتضحياتهم ولا يوجد لهم من يمثلهم حقيقة فيه، فما زال السوريون يختلفون، حتى في أحد أهم فصول المسرحية التي يدفعون فيها الجزء الأكبر من التضحية والألم.
أولى خطوات هذا الحل يكمن في إدراك الجميع خطورة المرحلة التي نمر بها الآن على كل الأصعدة، ولا سيما الميداني والسياسي. ونفض التبعية العمياء التي قيّدتنا بها الدول الداعمة، وهذا لن يحصل إلا من خلال تغيير عميق في بنية تفكير السوريين، يؤدي إلى هبةٍ شعبيةٍ في كل مكان، لتكون الأمل بطيّ الماضي واسترداد السوريين كرامتهم من جديد. وتشكيل مجلس عسكري موحّد يضمّ كل التشكيلات التي تؤمن بالنضال الوطني السوري وبناء سورية الموحدة لكل أبنائها، فلقد تعبنا من الشعارات الكبيرة التي أثبتت التجارب فشلها الأخلاقي والواقعي عند صدام المصالح، وسيقومُ هذا المجلس على اعتماد استراتيجيةٍ عسكريةٍ موحدةٍ، وإنهاء حالة الحروب العبثية التي تفرضها بعض الدول، أو تقوم بها بعض الفصائل لاستجلاب الدعم.
والتوجه إلى مخيمات الضباط، ودعوتهم إلى المشاركة في العمل العسكري، وإفساح المجال لهم، ليقوموا بواجبهم تجاه بلدهم الذي يحترق، ويحتاجهم الآن أكثر من أي وقت مضى. وإيجاد مظلّة سياسية، تمثل المجلس العسكري للتواصل مع الجهات السياسية السورية، والشخصيات الوطنية، لتحضير مؤتمر وطني، يجمع السوريين من إجل إنتاج قيادة فعلية جامعة من رحم ثورتهم، ولا تحيد عن أهدافهم.
وهناك تفاصيل أخرى كثيرة في الوسع تأجيلها، حتى إنتاج قيادة سورية بدماء جديدة، تستطيع أن تُخلصنا من هذه الدوامة التي نعيشها منذ سنوات، وهي الكفيلة باسترداد هيبة السوريين، بعد أن ضيعها بعضُ المنتفعين على أعتاب سفارات الدول، سعياً وراء المصلحة الشخصية والحزبية.
علّمتنا الثورة السورية أنه لا يوجد ما هو مستحيل، عندما تتوّفر الإرادة ونبدأ العمل، سنصل إلى ما نصبو إليه، نحتاج فقط، كسوريين، اليوم أن نبدأ بمشروع التغيير من أنفسنا على الرغم من كل الصعوبات، للخروج من حالة الانسداد السياسي التي وصلت إليها الثورة السورية. وبعد خمس سنوات، أثبت الشعب السوري أنه قادرٌ على صنع المعجزات.
المصدر : العربي الجديد