تبدو دول الاتحاد الأوربي كتلةً متجانسةً واحدة، تتبنى نسقاً أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً موحداً. وضعت معاهدة ماستريخت الأسس لتجمع تلك الدول ترجمةً قانونية وحقوقية لهذا التجانس، وعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على إقرار تلك المعاهدة، تبدي دولة محورية، مثل بريطانيا، رغبة باستفتاء جمهورها للبقاء في الاتحاد. وتشير القراءات الأولية واستفتاءات الرأي العالم إلى أن النتائج قد تكون لصالح الانفصال، ولا تخفي بعض دول الاتحاد الباقية تململاً من البقاء تحت عباءته. كان اعتماد هذه المعاهدة قد تأخر سنتين، بعد أن برزت صعوباتٌ دستوريةٌ لدى بعض الأعضاء في سبيل إقرارها النهائي.
رغبت أوروبا في تجنب مزيد من الحروب، بعد أن عانت، في القرن الفائت، حربين شاملتين مدمرتين، دفعت إثرهما ملايين الضحايا، واعتقدت أن تخليق فرصٍ للتقارب بين تلك الدول قد يجعل إمكانية قيام حربٍ جديدةٍ ضعيف. وذلك بتعميق العمل المؤسسي، والتركيز عليه، وترسيخ الفكر الديمقراطي، وفتح السوق والحدود بين الدول الأعضاء، وسارع الاتحاد، بعدها، بضم الدول التي أفلتت من نير الاتحاد السوفيتي، لتحقيق الرغبات السابقة نفسها مع الدول المنضوية حديثاً، ودمج الدول الجديدة في النسق الليبرالي نفسه للإبقاء على مزاج أوروبي واحد، على صعيد الأمن والاقتصاد والسياسة.
كانت الرغبة صادقة وعميقة عند دول الاتحاد الأوروبي في تنحية الأسلحة جانباً، والجلوس على طاولة الحوار للاتفاق على فتح الحدود، وشكل المواطنة الأوروبية، وتحديد المعايير الاقتصادية للسوق الجديدة، ومحاولة تذويب كل الجسد الأوروبي في كيانٍ سياسي موحد. كان وارداً أن تسجّل هذه السوق أكبر نجاحٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ على مر العصور. ولكنْ، كثيراً ما كنا نشاهد الشوارع الأوروبية مليئةً بمواطنين منفعلين ومعترضين، والاتفاق بين الدول الأوروبية واليونان مازال ماثلاً، ما شكَّل واحدةً من العقبات الكبرى التي تقف بوجه تسجيل قصة النجاح التام.
كان التفاوت الاقتصادي كبيراً وملحوظاً، وشكل توحيد العملات التي كانت متنافسة عبئاً على الهوية الاقتصادية والوطنية أيضاً، ولم يتزامن الاندماج النقدي مع التوحيد السياسي المطلوب، ومع الوجهات المتباينة للدول الأعضاء، ومدى قرب كل دولةٍ على حدة من الولايات المتحدة، والتشتت الكبير للمواقف السياسية لدول اليورو كالموقف من الحروب في سورية والعراق والموقف من اللاجئين، وقضايا سياسية أخرى.
الجوهر الاقتصادي لدول الاتحاد معرّض للاهتزاز، بسبب الأزمات التي تختلف شدّتها من دولةٍ إلى أخرى، وعندما يأتي موعد الحل يصبح لزاماً على الدول التي تعاني من المشكلات أكثر من غيرها الخضوع للمساومات والارتهان لخطط تخفيض النفقات الكبير، فأمر الخروج من الاتحاد ليس ممنوعاً على الورق، لكنه عملياً ممارسةٌ غير لائقة، لأن السبحة هشّة وقابلة للانفراط بسرعة.
تؤجِّجُ برامج التقشف مشاعر الكراهية للاتحاد، وهي سلوكيات اقتصادية شاقة، يبدو أن كل دول الجنوب الأوروبي، مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، معرّضة لمرورٍ بها. تقود مشاعر الكراهية إلى النفور من هذه الوحدة، وقد تُحدث مزاجاً محلياً متعصباً، وهو أحد المظاهر التي قامت الوحدة الأوربية لمحاربتها.
لم تنته الحفلة بعد، فالاقتصاد بدأ ينتعش، ولو بوتائر منخفضة، وتم طي صفحة معاناة اليونان بخسائر يمكن ابتلاعها، لكن التطرّف لم يتوقف، وقد جعلت مشكلات اللاجئين أحزاب اليمين تظهر على شاشات عد الناخبين، وتطور التطرّف إلى حد استخدام العنف الذي راحت النائبة البريطانية العمالية، كوكس، ضحية له، وهي من مروجي البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، وقد يؤمن موتها، بهذه الطريقة، تعاطفاً مع البقاء ضمن الاتحاد، لكن بقاءً رومنطيقياً بهذه الطريقة لا يجعل الاتحاد قوياً بما فيه الكفاية، ولا يلغي إمكانية الخروج البريطاني منه، بل قد يؤجله فقط، أما الدول التي تنتظر دورها في الانضمام، مثل تركيا، فقد بدأت تعد خططاً خاصة بمعزلٍ عن الاتحاد، واضعةً أمام عينيها أن هذا الانضمام قد لا يتم أبداً.
المصدر : العربي الجديد