كان التفسير الذي يتناول تنظيم داعش ينطلق من فكرة التعصب الديني، ومما هو أيديولوجي، ومن الثقافة “الدينية”، وجرى اعتبار كل البيئة المتديّنة “بيئة حاضنة” لهذا التنظيم. بمعنى أن هذا التعصب والعنف الذي يظهر في ظاهرة داعش هو نتاج الإسلام. ولكن، لم تدرس “بيئات” الأفراد الذين يتهافتون على التنظيم، وأقصد هنا الظروف التي يعيشونها، وطبيعة “تديّنهم”، ومن ثم الأسباب التي تدفعهم الى الانضمام إليه.
وعلى الرغم من أن المنابع متعدّدة، كما يمكن أن يُلمس، ربما يكون التدقيق في طبيعة الأفراد الذين قاموا أخيراً بعمليات إرهابية في أوروبا وأميركا مؤشراً إلى مسار آخر، وإلى إشكالياتٍ تخص البيئات هناك، فيما يتعلق بمن هم من أصول “إسلامية”. مع ملاحظة أن هناك من “السكان الأصليين” الذين يقومون أيضاً بالأعمال نفسها تحت مسمياتٍ أخرى، أي أن الميل إلى التطرّف هناك لا يتعلق بدين، بل بشرائح اجتماعية، بغض النظر عن أصولها. وفي كل الأحوال، كل هؤلاء مواطنون في تلك البلدان، ولدوا فيها، ودرسوا، وعملوا. وبالتالي، يمكن القول إن تلك البيئة هي التي أنتجت هؤلاء “الإرهابيين”، بغض النظر عن الشكل الذي يعبّرون فيه عن إرهابهم. على الرغم من أن الأمر أعمق من ذلك، ويخصّ البيئة نفسها التي تنتج من يسهل عليه ممارسة الإرهاب.
وكما ظهر من معلومات حول تاريخ عدد ممن قام بعمليات قتْل أنهم لم يكونوا متديّنين، بل على العكس، عاشوا حالات “انحراف”، وذهبوا إلى السجن لقضايا جنائية، وتعاطى عديدون منهم الحشيش والخمر، وحتى الدعارة. بمعنى أن حياتهم كانت حياة فئات مهمشةٍ وذات أسبقيات جنائية. وذلك كله إلى فترة قريبةٍ من انتمائهم لتنظيم داعش، وحتى أن بعضهم من هذه البيئة بات يعلن التحاقه بداعش، قبل أن يمارس “عملية إرهابية” مباشرةً، كما فعل عمر متين الذي كانت مشكلته تتمثل في أنه مثليّ، وقرَّر أن يقوم بمجزرة بمثليين. وهو أمر لا يدخل في “رؤية” داعش، وليس من هدفٍ سياسي وراءه، لكنه أعلن أنه من “داعش”، وتبنى “داعش” عمليته الإرهابية (ربما لتخفيف الأزمة الأميركية بإلقاء سبب القتل لميل تطرفي). وكذلك يمكن أخذ وضع أباعود وصلاح عبد السلام والمجموعة التي قامت بعمليات إرهابية في باريس وبروكسل مثالاً على ذلك، حيث أنهم كانوا يمارسون ما هو “مخالف للدين”، وسجن بعضهم في قضايا جنائية، وكان لبعضهم محلات بيع خمور، كما ظهر بعد أن قاموا بعمليات قتل في باريس وبروكسل.
تفرض هذه المؤشرات أن نبحث في وضع هؤلاء، ولماذا باتوا إرهابيين، وقد تربّوا في “الغرب”، وانخرطوا في قاع المجتمع.
لهذا، يمكن النقاش في مستويين، الأول يتعلق بالظروف التي تدفع أوروبيين أو أميركان إلى القيام بأعمال إرهابية، حيث يظهر التهميش وانحدار التعليم وغياب العمل أسباباً موضوعيةً لانحراف أفراد، خصوصاً هنا من أبناء المهاجرين الذين باتوا بلا تعليمٍ ولا عمل، ولا أفق لحلٍّ لوضعهم. هذا أمر يدفع نحو “الشغل في الأسود”، والانحراف الاجتماعي. وإن من يدقّق في وضعية المهاجرين في فرنسا أو بلجيكا أو هولندا، وغيرها، يلمس مدى التهميش الذي يطاول هؤلاء، حيث تظهر البيئة الأفقر، والأقل تعليماً، والأكثر عرضةً لتعديات الشرطة. وفيها ينتشر الحشيش والدعارة والسرقات، وعمليات النصب. تلك بيئاتٌ منتجة للتمرد بالتالي، على الرغم من أن التمرّد يتخذ شكلاً “انحرافياً” لدى بعضهم. ولا ننسى “الثورة” التي قامت في الضواحي الباريسية قبل سنوات قليلة، وكان التهميش والفقر في أساسها. بمعنى أن هؤلاء هم نتاج بيئتهم “الغربية” (الرأسمالية)، حيث كانوا الأضعف، كونهم من أصول غير أوروبية. ولهذا، عانوا الإهمال في التعليم والشغل، وحتى البنية التحتية، فأصبحوا “عالمثالثيين”، وهم في عواصم الحضارة الأوروبية.
إذن، يمكن ملاحظة أن الفئات التي انتمت الى “داعش”، أو قالت إنها تنتمي لـ”داعش”، من الشباب الذي يعيش في أوروبا وأميركا، مهمشةٌ أصلاً، ولم يكن لها علاقة بالدين كذلك، وليست متعصبةً فحسب. عاشت وضعاً “مخالفاً للشرع” (كما يمكن أن تكون فتوى داعش أو غيرها)، نتيجة وضعها الهامشي. بالتالي، هي نتاج الرأسمالية بشَرَهِ ميلها إلى النهب والاستغلال والإفقار. وكان يمكن لهؤلاء (ويمكن لهم) أن يكونوا جزءاً من ثوراتٍ يمكن أن تنشب في تلك البلدان، من أجل الاشتراكية. لكن انحصار التهميش في مهاجرين، حتى وإن كانوا من الجيل الثالث أو الرابع، لا يعطي الإمكانية لهذه الثورة. لهذا يميل هؤلاء إلى الانتقام. على الأقل كما يظهر الى الآن.
يتعلق المستوى الثاني بـ “الضخ الإعلامي” الذي كان يهدف إلى تضخيم داعش (وقبلها تنظيم القاعدة)، حيث ظهر أن من يواجه “الغرب” (أي أوروبا وأميركا) هو داعش، وأنه يمكن لهذا التنظيم أن يهزم هذا “الغرب” الذي همّش هؤلاء الشباب، وأفقرهم، ودفعهم إلى الانحراف. اشتغل الإعلام بعد “11سبتمبر” سنة 2001 على تضخيم تنظيم القاعدة، واعتباره “قوةً خارقة” تمتد في كل العالم، ويمتلك الأسلحة الخطيرة، بما في ذلك ربما السلاح النووي، كما أشيع حينها. للوصول إلى فكرة، أو لإيصال فكرة، تتمثل في ضرورة تدخل أميركا العسكري. هذا ما حدث كذلك بعد يونيو/ حزيران سنة 2014، حيث عمل الإعلام “الغربي” على تضخيم التنظيم، واعتبار أنه “خطر عالمي”، وقوة “خارقة”، ويهدّد “السلم والأمن العالميين”.
بات الطرف الآخر في التناقض مع “الغرب”، المكافئ أو المؤثر والمخيف. وفي هذه الوضعية، تميل الفئات المهمشة إلى الانخراط في هذا “التيار الجارف” (أو القوة الخارقة)، لأنها تمثل بالنسبة لها قوةً تستطيع من خلالها مواجهة من همّشهم وأفقرهم، ودفعهم إلى الانحراف. كانت هذه الحالة تدفع مهمشين كثيرين إلى الانخراط في اليسار، حينما كان القوة المؤثرة حقيقة ضد الرأسمال، وكان ينتصر في مناطق عديدة. وربما كانت هذه الحالة في خلفية “تضخيم” قوة أصولية إرهابية متحكم فيها، لكي تمتص غضبة هؤلاء، بدل أن يتحوّلوا إلى اليسار.
لهذا، نجد أن التعبير عن رفض التهميش في “الغرب” بات يدفع إلى الالتحاق بهذه “القوة الخارقة”، خصوصاً أن لها “رابطاً” ما بهؤلاء. هنا، يظهر دور الدين رابطاً، على الرغم من أن السبب يتمثل في أنه “قوة خارقة”، يمكن عبرها الانتقام من “الغرب”. ومن دون قناعةٍ حقيقية بالدين. لكن، ربما باستحضار “تاريخ” انتصارات وحضارة باسم الدين. طبعاً من دون أن يعرف هؤلاء أنهم يخدمون طرفاً في “الغرب” نفسه.
بالتالي، ما يظهر أن التضخيم الإعلامي لداعش هو الذي يدفع قطاعاتٍ مهمشةً، هنا أو هناك، للانخراط فيها كحالة انتقام ممّن همشها. بهذا، تسقط مسألة “التعصب الديني” أو البيئة الحاضنة، ليظهر أن تضخيم الظاهرة فرض التحاق مهمشين، وهو ما يفرض التدقيق في من ضخّمها.
المصدر : العربي الجديد