فيما كان أطفال مدينة داريا السورية يكتشفون الخبز والبسكويت للمرة الأولى بعد خروجهم من حصار استمر نحو خمس سنوات، تبين وفق تحقيق لصحيفة «الغارديان» البريطانية أن الأمم المتحدة كانت تضخ ملايين الدولارات من المساعدات الإنسانية المخصصة لسورية في خزينة منظمات وجمعيات مرتبطة مباشرة بالنظام السوري منذ 2011 وحتى اليوم. وعليه، استفادت مؤسسات تجارية تابعة لرجال أعمال مثل رامي مخلوف ومنظمات يخضع أصحابها لعقوبات أميركية وأوروبية مثل الجميعات الأهلية التي تديرها أسماء الأسد من مبالغ خيالية، عوضاً عن أن تذهب تلك الأموال ولو جزئياً لمن هم بأمس الحاجة إليها.
وفي حرب يستخدم فيها الحصار والتجويع سلاحاً لإخضاع المناطق عسكرياً تمهيداً لتفريغها من سكانها عبر ممارسة التهجير القسري والترحيل بغير مواعيد عودة، قدمت الأمم المتحدة شريان حياة أساسي للنظام عبر ضمان دور خدمي يحتاج إليه ولا يقل أهميةً عن العمل الحربي الذي تدعمه فيه كل من روسيا وايران وميليشيات خارجية.
والحال أن المساعدات الأممية قد تتخذ شكل سلة غذائية وعلبة دواء منزلي ترسل إلى القواعد الشعبية وأسر المقاتلين في الأرياف، لكنها أيضاً فواتير هائلة تسدد لفنادق العاصمة دمشق وشركات الحماية فيها وما يدور في فلكها من مصالح تجارية واقتصادية. ومن شأن ذلك، أن يزيح عبئاً خدمياً كبيراً عن كاهل النظام حيال بيئته الحاضنة ليتفرغ كلياً للعمل الحربي من جهة، ويضمن من جهة أخرى حماية مصالح نخبة اقتصادية دمشقية وغير دمشقية ترتبط عضوياً بالنظام، ولا بد من إبعاد أثر العقوبات عنها لضمان ولائها وتكريس زبائنتيها. فيكفي أن نعرف أن 285 شركة تجارية أبرمت عقوداً مع منظمات مختلفة تابعة للأمم المتحدة، لندرك معنى مقولة أن النظام لا يزال متماسكاً ويسدد رواتب موظفيه، وأن ثمة قطاعات واسعة ومؤسسات يجب الحفاظ عليها.
هذا ولم نتحدث بعد عن المبالغ الصريحة التي استفادت منها مؤسسة «البستان» التابعة مباشرة لرامي مخلوف والتي تغذي ميليشيات مسلحة تابعة للنظام وتنشط خصوصاً في منطقة الساحل السوري.
إذاً، فيما النظام يعاقب جماعياً المناطق المنتفضة عليه، ويجوع داريا والوعر والغوطة والزبداني وحلب وغيرها لحسم المعركة العسكرية لمصلته، تقوم الأمم المتحدة بمختلف منظماتها بتأمين الغذاء والدواء والمال لمؤسساته، ثم تشرف على إبرام الهدنة تلو الأخرى بينه وبين تلك المناطق المنكوبة نفسها.
وكان يمكن القبول بالحجج التي حاولت الهيئة الأممية سوقها دفاعاً عن النفس من قبيل أنها تعمل تحت قوانين صارمة تمنع التعامل مع جهات غير رسمية، وأنها تخشى طردها من سورية وكف يدها كلياً، لو أنها أسمعت صوتاً معترضاً واحداً على اكتشاف مخازن بأكملها تركت فيها المؤن والمساعدات المدموغة بشارتها تتكدس وتفسد من دون أن توزع على من يحتاج إليها. وكان يمكن أن تقبل ذرائعها لو أنها لم تكن السباقة إلى إعلان حصار بلدتي الفوعا وكفريا مساوياً لحصار مضايا والزبداني والإمساك بالقضية كورقة عصية في المفاوضات. علماً أن مروحيات النظام دأبت على رمي تلك المساعدات جواً للبلدتين المواليتين، فيما شهدت مضايا حالات من الموت جوعاً.
وليس سراً أن المنظمات الدولية تضطر في أحيان كثيرة إلى مقايضة دخولها إلى مناطق النزاع وبقاء فرق عملها فيه، مقابل الصمت عن تجاوزات الأفرقاء، خصوصاً تلك التي يرتكبها الطرف الأقوى القادر على منع الدخول أو الإيذان به. وهذا عملياً ما جرى مع الصليب الأحمر الدولي في العراق، إبان فضيحة معتقل «أبو غريب». إذ تبين أن المنظمة كانت على علم بالانتهاكات التي كان يتعرض لها المعتقلون، ولم تكشفها للرأي العام لتبقى قادرةً على الدخول ومعاينة الجرحى وتوثيق الحالات ونقل الرسائل للأهل والمحامين. فما أن نشرت الصور الكارثية حتى تعرضت المنظمة لكم هائل من الانتقاد والمحاسبة العامة التي ذهبت إلى حد مساءلة أهم أركان الصليب الأحمر وهو مبدأ الحياد المطلق، بحثاً عما إذا كان يواكب الزمن ومتطلبات النزاع.
وفي حالة الأمم المتحدة في سورية، يكفي الإقرار بهذه المقايضة وتقديمها ذريعةً لفساد موصوف، ليعني ذلك أن المنظمة الدولية تعترف بأن البلد برمته عبارة عن معتقل كبير، وما هي إلا مظلة معنوية حيال الخارج وحساب مصرفي حيال الداخل.
والحال أن المشكلة في هذا الكشف لا تكمن بتعريف الجمهور على لاعب إضافي على الساحة السورية، وإنما في أن هذا اللاعب هو الأمم المتحدة نفسها، التي تأسست بهدف حماية تعزيز السلام والأمن وحماية الفئات الأكثر تضرراً في النزاعات. وفي منطقة كمنطقتنا، تعصف بها التيارات الأصولية من كل صوب ويفرخ فيها الإرهاب في كل ثقب، ثمة عواقب وخيمة جداً لأن يفقد المدنيون، ودعاة العمل السياسي السلمي على قلتهم، والمجتمعات الأهلية الثقة بمنظومة دولية وآليات عدالتها. فحتى نداءات الاستغاثة والرغبة بالاستعانة بالأمم المتحدة كجهة يُشتكى لها، وترفع القضايا الإنسانية والسياسية إلى محكمتها، وتتم الاستعانة بآلياتها وهيأتها، باتت مع انحياز جائر من هذا النوع بلا جدوى. فمن يحاسب الأمم المتحدة لمشاركتها في إطعام ناس يجوعون ناساً؟
وكيف يمكن في المقابل، إحالة نظام سياسي إلى محاكمة دولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، منها التجويع والإخفاء القسري وغيرهما، إذا كان يحظى بغطاء أممي أصلاً؟ ربما يكون ذلك متاحاً إجرائياً ووفق النصوص، لكن مظلومية المجتمعات المحلية وشعورها بالتخلي التام عنها، والتواطؤ عليها، وفشل مؤسسات المجتمع الدولي (بمعنى النظام العالمي) في حمايتها، تبقى أشد وأعنف مما تلحظه أو تغفل عنه النصوص.
المصدر : الحياة