مقالات

صبحي حديدي – حصيلة أوباما: وعود كاذبة وحروب مقنّعة

حين فرغ الرئيس الأمريكي باراك أوباما من إلقاء خطبة الوداع لشعبه، في شيكاغو، قبل أيام؛ كانت إدارته قد ألقت 26.171 قنبلة، على سبعة بلدان: سوريا، 12.192؛ العراق، 12.095؛ أفغانستان، 1.337؛ ليبيا، 496؛ اليمن، 34؛ الصومال، 14؛ باكستان، 3. لكنه لم يحتسب هذا الرقم ضدّ إنجازاته، ولم يتطرّق إليه نهائياً، بل اعتمد العكس: سَوْقُ كلّ الإشارات، والإيحاءات، بأنه كان رئيس سلام، لا رئيس حرب؛ وأنّ خلق الوظائف، وإصلاح نظام التأمين الصحي، وتصفية أسامة بن لادن، هي الثلاثي الأبرز في منجزه الرئاسي.

والحال أنّ المرء لا ينكر على أوباما أنه، بالفعل، كان رئيس الداخل الأمريكي أكثر بكثير من الخارج العالمي؛ وذاك لم يكن حقّه فحسب، بل لعلّ البعض يساجل، عن صواب، أنه كان واجبه تجاه شعبه. ما لا يجوز نكرانه أيضاً، وفي المقابل، أنّ الرئيس الرابع والأربعين تعامى عن سلسلة وعود كان قد قطعها على نفسه؛ خاصة من موقعه كرجل تغيير رفع شعار «نعم، نستطيع!»، وكذلك لأنه ـ إذْ لا يصحّ إغفال هذا التفصيل، الحاسم ـ أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة. فكيف إذا كان قسط من تلك الوعود ينتهي إلى نقيض الصورة ـ الأخلاقية، على الأقلّ ـ التي ظهر عليها أوباما، وبَشّر بها، وقُدّم فيها.

الوعد الأول يتصل بمعتقل غوانتانامو، إذ كان أوباما ـ ومنذ أن استحق، رسمياً، صفة الرئيس المنتخب ـ قد وصف المعتقل بـ»الفصل الحزين في التاريخ الأمريكي»؛ معتبراً أنّ في وسع النظام القضائي الأمريكي أن يستوعب مختلف ملفات المحتجزين في المعتقل، لأنه أصلاً واقع خارج أراضي الولايات المتحدة. بيد أنّ طيّ صفحة هذا «الفصل الحزين» كان يقتضي إغلاق المعتقل، ليس أقلّ؛ وذاك قرار كان يرقى إلى مستوى واحد من أهمّ الاختبارات المبكّرة حول اقتران أفعال أوباما بأقواله أثناء الحملة الانتخابية. لهذا لجأ مساعدو الرئيس المنتخب إلى تسريب معلومات تفيد بأنّ الإدارة الجديدة تعكف على دراسة سلسلة مقترحات: إطلاق سراح البعض، ومثول البعض الآخر أمام محاكم جنائية أمريكية، وإحالة «حالات الخطر العالي» إلى محكمة أمريكية جديدة تتخصص في القضايا الحساسة التي تمسّ الأمن القومي…

لم يتحقق شيء من هذا، عملياً، أو بصفة ملموسة ذات تبعات قانونية يمكن القياس عليها؛ لسبب جوهري أول هو أنّ المعتقل لم يكن محض «فصل حزين»، رغم كلّ ما تثيره شروط الاحتجاز من حزن وأسى وتعاسة، بل كان، ويظلّ في المقام الأوّل، صيغة فاضحة ومعلَنة من بربرية أمريكية: قانونية، وحقوقية، وسياسية، وأخلاقية. وفي وضع المعتقل ضمن هذه الخلفية الأعرض، ثمة عبارة/ مفتاح، كان قد أطلقها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في تبرير إنشاء هذا المعتقل العسكري، حين أقامته الإدارة في خليج غوانتانامو يوم 11 كانون الثاني (يناير) 2002، إلى جانب حزمة إجراءات أخرى خارجة عن القانون الدولي والقانون الأمريكي ذاته أيضاً، في سياقات ما أسمته بـ «الحرب على الإرهاب». قال بوش، يومئذ: «تذكروا… هؤلاء الأشخاص الموجودون في غوانتنامو قتلة، ولا يشاركوننا نفس القِيَم»…

إنها، إذن، حكاية قيم، فكرية أو سياسية أو ثقافية أو حتى دينية؛ وليست مسألة قوانين مرعية وقضاء مستقلّ ومحاكم عادلة تنظّم شؤون الجريمة والعقاب. وأيّ انتهاك للحقوق الإنسانية والقانونية للأفراد المعتقلين في غوانتانامو مشروع تماماً، في منظار أوّل هو عدم انتماء المحتجَز إلى القيم الأمريكية؛ وأنّ تلك القيم تتمتع ـ في المنظار الأمريكي فقط! ـ بصواب أخلاقي مطلق، وبمنعة قانونية راسخة، فضلاً عن تسلحها بمختلف أنماط السطوة السياسية والعسكرية والاقتصادية. والثابت أنّ إعلان أوباما العزم على إغلاق المعتقل اكتنفته سلسلة من التصريحات المشوشة والمتناقضة، والتي ألقت بظلال الشكّ حول المدى الزمني لاقتران أقواله بالأفعال، لكي لا يذهب المرء أبعد في الظنون.

وهكذا، كان أوباما قد أبدى موافقته على إحالة بعض معتقلي غوانتانامو إلى القضاء العسكري الأمريكي، وليس إلى المحاكم الفدرالية المدنية؛ الأمر الذي ساجلت ضدّه جميع منظمات حقوق الإنسان، لأسباب جلية. وإذْ تحدّث الرئيس الأمريكي عن احتمال براءة الكثيرين من تهمة الإرهاب المنسوبة إليهم (بل ضرب مثلاً من خارج المعتقل: المواطن السوري ـ الكندي ماهر عرار، الذي اعتقلته السلطات الأمريكية في مطار نيويورك، وسلّمته إلى الأجهزة السورية، بتواطؤ من الشرطة الكندية، حيث تعرّض للتعذيب والاعتقال طيلة سنة ونيف، واضطرت الحكومة الكندية إلى الاعتذار منه وإعادة الاعتبار إليه بعد الإفراج عنه)؛ إلا أنّ المثول أمام قاض عسكري أمريكي لن يساعد كثيراً في إظهار البراءة، تماماً كما برهنت محاكمة حمزة البهلول وعمر خضر، على سبيل المثال.

الوعد الثاني الذي قطعه أوباما على نفسه كان الترخيص بنشر ما ستُسمّى «مذكرات التعذيب»، التي صدرت عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في الإدارة السابقة؛ خاصة وأنّ ثلاثة كتب كانت قد تناولت الموضوع، على سبيل ارتياد حقائق ذلك الملفّ المشين: كتاب «فريق التعذيب: مذكرات رمسفيلد وخيانة القيم الأمريكية»، للمحامي البريطاني وأستاذ القانون فيليب ساندز؛ وكتاب جميل جعفر وأمريت سينغ، «إدارة التعذيب: سجلّ موثق من واشنطن إلى أبو غريب»؛ وكتاب مايكل راتنر، «محاكمة دونالد رمسفيلد: مقاضاة عن طريق كتاب»، بالتعاون مع مركز الحقوق الدستورية. وكانت هذه المؤلفات تنضم إلى سلسلة الأعمال والتحقيقات الصحافية التي بدأت من سيمور هيرش، ومرّت بأمثال مارك دانر وجين ماير ورون سوزكند وسواهم.

بيد أنّ فظائع «مذكرات التعذيب» الإدارية تلك لم تأت من ألبرتو غونزاليس، الذي كان وزير العدل في إدارة بوش الابن، أو من جاي بايبي وجانيس كاربنسكي أو دونالد رمسفيلد، فحسب؛ بل جاءت من أمثال جون يو، الأكاديمي المنظّر وأستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا، الذي زوّد الإدارة بالمسوّغات القانونية للتلاعب على اتفاقية جنيف! الإدارة كانت تعرف، إذن، بدليل التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول واقع السجون العراقية في ظلّ الاحتلال الأمريكي. يقول تاغوبا إنّ الجيش الأمريكي ارتكب أعمال تعذيب «إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة»؛ يسرد بعضها، هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين الذكور بالاغتصاب، اللواط بالموقوفين عن طريق استخدام المصابيح الكيماوية أو عصا المكنسة، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم…

لكنّ أوباما ـ نفسه الذي نهض برنامجه الانتخابي الأول على نقيض أجندات سلفه في مسائل عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، في صلبها الموازنة بين خيارات الأمن القومي وقيم أمريكا الأخلاقية ـ أصرّ على عدم الذهاب خطوة أبعد، سواء في رفض تعيين قاض مستقلّ للتحقيق في المسؤولية عن «مذكرات التعذيب» تلك؛ أو التذرّع بضرورة الحفاظ على «مبدأ الإجماع» في مسائل الأمن القومي الأمريكي، الأمر الذي تساوى فيه مع معظم الرؤساء الأمريكيين السابقين، وبوش الابن على رأسهم. وتلك كانت أطوار المراوحة في المكان، التي أعقبتها خطوات إلى الوراء بالطبع، كما اقتضت الحال.

وحين تسلّم أوباما جائزة نوبل للسلام، فإنّ قصارى ما انتهت إليه خطبته، هذه الخلاصة: ثمة حروب عادلة، من الطراز الذي تخوضه بلدي في أفغانستان وفي العراق. أو، في صياغة أخرى: لستُ داعية سلام، ولا جنرال حرب، بل… محض رئيس أمريكي نموذجي، وكفى!

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى