مقالات

ميسرة بكور – من يوميات سوري في مدرسة فريدلاند لإعداد المهاجرين في ألمانيا

لست الشخص الأول ولن أكون الآخير، الذي مر وسيمر على «مدرســة فريدلاند»، لإعداد المهاجرين أو اللاجئين الجدد من القارات الثلاث، الذي يضم أكثر من 600 مهاجر أو ملتمس اللجوء في ألمانيا، في هذه اللحظة التي أسرد فيها لشخصكم الكريم ما أعايشه على أرض واقع التجمع.

ولست أخفيكم أنني لم أكن أعلم عن المكان شيئًا.

سمعت الكثير من أقوال القائلين أو المتقولين حول المجمعات التي يتم سوق اللاجئين إليها وحشرهم فيها، وبعضهم قال عليك بالصبر والمصابرة فهي كفيلة في امتصاص ما قد تشعر به من خيبة أمل أو بعض عوارض الإقامة في المجمع، وقد أصدروا حكمًا غير قابل للنقض بأننا سنواجه خلال فترة إقامتنا في المجمع المحكوم عليه سلفًا بأنه غير مريح.

فترة إقامتنا في التجمع، قد تواجه صعوبات وأمورًا كثيرةً ربما لا تسركم، مثلًا الإقامة مع مجموعة من الشبان أصغر منك سنًا أو الاستحمام في حمام مشترك ومطبخ يشترك في استخدامه الجميع، ومشاركة العائلات سكن الشبان العزاب.

القارئ الكريم، ما أريد إخبارك به أنني خططت سطوري هذه من داخل تجمع «فريدلاند» ولاية هانوفر، سكسونيا السفلى وأنا من نزلائه، ما زلت أعيش تفاصيله اليومية الاعتيادية منها والعاصفة الثلجية المتجمدة، والمتجددة مع إشراقة كل يوم جديد، وقصصها الإنسانية متعددة الجنسيات التي استوعبتها بصدق أحضان وأجنحة مدرسة فريدلاند برعاية نبيلة ذات عمق وبعد إنساني التي إن دلت على شيء إنما تدل على سمو ورفعة أخلاق القائيمن والعاملين في ما أصر على تسميته مدرسة فريد لاند لإعداد المهاجرين.

أهلا بكم في مدرسة فريدلاند

في صباح يوم الخميس 8 كانون الأول/ديسمبر 2017، أقلعت طائرة الإيرباص التابعة لشركة مصر للطيران من مطار القاهرة الدولي البوابة F2 التي كانت تقلني مع حوالي 260 شخصًا آخرين من مخـتلف الجـنسيات.

كانت الوجهة مطار هانوفر في سكسونيا السفلى، حيث كان الموظفون ينتظروننا برفقتهم عدد من المترجمين والمسؤولين في الإدارة الاتحادية وقسم الهجرة، بعد إجراءات الدخول تم مرافقتنا عبر ممر خلفي إلى قاعة الانتظار، وقبل أن ندخلها وجدنا مجموعة من الناشطات يحملن هدايا وينتظرن قدومنا بابتسامة مشرقة، ويسرعن ويقدمن الهدايا في مشهد لم أشهده لا في مطارالقاهرة الدولي ولا مطارالمملكة علياء الدولي في الأردن.

بعد أن جلسنا في القاعة المذكورة كانت المفاجأة الثانية بعد مفاجأتنا بالهدايا وقاعة الانتظار والبوفيه الذي كان يعج بأنواع الشكولاته والبتيفور وزجاجات المياه وغيرها من أسباب الضيافة، فكان أن دخل علينا في القاعة مسؤولون من المكتب الاتحادي للهجرة وشؤون اللاجئين وبعض المعنيين برفقة مترجمين وبدأوا بالترحاب بنا بما يشبه حفل استقبال قمة في الإنسانية، حيث قالت المسؤولة هكذا: «نحن سعداء لأنكم موجودون الآن بيننا.. نعلم حجم معاناتكم السابقة»، هذه الكلمات كانت بمثابة ناقوس قرع وجداني وحركني باتجاه المتحدثة لأقول لها: «بل نحن ازددنا شرفًا بأن منحتمونا فرصة أن نكون مواطنين ألمانا ونرجو أن نستطع أن نخدم ألمانيا «.

بعد حفل الاستقبال، تم نقلنا بحافلات إلى مجمع فريد لاند حيث نستقر حوالي أسبوعين هي بمثابة دورة تأهيلية في اللغة والاندماج والتعارف والثقافة والفن معطرة برحيق إنسانية الإنسان المتحضر المتسامي على اللون والطائفة والجنس وما يحـط من القيم الإنسانية النبيلة.

«فريدلاند» الواقع في اقليم هانوفرعاصمة ولاية سكسونيا السفلى غرب ألمانيا، لم يكن مجمع للمهجرين أو ملتمسي اللجوء متعددي الجنسيات والأعراق، بل كان مدرسة حقيقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ وعبارات لإعداد المهجرين من أجل مشاركة فعالة واندماج سريع في المجتمع الآلماني.

في سبيل هذه الغاية، سخّرت إدارة المجمع «المدرسة» كادرًا متخصصًا في الاستشارات القانونية والاجتماعية وقوانين العمل والهجرة والاندماج بالتعاون مع منظمات حقوقية تدعم المهاجرين مثل منظمة كاريتاس.

المجمع الذي تم تأسيسه أثناء الحرب العالمية الثانية من قِبَل الجيش البريطاني تحول عبر عقودٍ طويلةٍ لكوكب مصغر تمكن من جمع طيف واسع من المهجرين والنازحين من قارات العالم من عام 1945 وجنود الحرب العالمة الثانية مرورًا بمهجري تشيلي وفيتنام ومهجري القرن الحادي والعشرين، وقد تم توثيق معظم مراحل استقبال المهجرين خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها في متحف «فريدلاند»، حيث تم تحويل مبنى قديم لمحطة القطارات إلى متحف خاص بفريدلاند في مارس 2015، وعندما نقول متحف هذا لا يعني أنّنا سنشاهد فيه التماثيل والمعدات إنما هو متحف «صور» ووثائق وكتب، يضم حوالي 10 آلاف صورة، تم تجميعها من شهود عيان ومن المعنيين بالقضية بشكل شخصي، خلال عشر سنوات من المتابعة والتدقيق كما أخبرتنا سماح الجندي، سورية وهي موظفة قسم «بيداغوجيا» في المتحف، وكذالك فعل منذر خلوص الموظف في المتحف وهو أيضًا سوري، كما يرافقهم مجموعة من الموظفين الألمان ومن عرقيات متعددة منهم فتاة من أصول إيرانية.

متحف فريد لاند، يضم نخبة من الموظفين كان لنا شرف الاستماع إليهم وهم يعملون على جسر العلاقات بين المتحف ونزلاء فريد لاند من المهجرين، والوفود السياحية والثقافية التي تزوره بشكل يومي من كل بقاع الأرض، هذا الفريق المميز بأسلوبه وأدواته التفاعلية ونبض احساسه الذي يلامس ما عايشه ابناء تلك الحقبة من تهجير ونزوح وينقلونك عبر آفاق الزمن لتعيش تلك اللحظة المأساة الإنسانية بأبعادها كافة.

بالإضافة لمعالم البناء العتيقة وهندسته العمرانية وسقفه الخشبي المميز الذي ينبض بمشاعر تلك الصور المخزنة بين جدرانه واروقته الممتدة من عام 1945 حتى مأساتنا اليوم في سوريا والمنطقة العربية.

فريد لاند «المدرسة».. التجمع هو في الأصل قرية ألمانية تتبع لولاية هانوفر غربي ألمانيا، تحولت لنزل للنازحين منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا، وهو كلتة عمرانية أكبر مبانيها طابقية هو المسشفى أو المستوصف، وهو مكون من ثلاث طبقات ويتسع لعشرات الأسر، ويقدم خدمات الطوارئ والإسعافات العاجلة.

المطعم ودار المناسبات

يوجد مطعم ودار مناسبات تتسع لأكثر من 600 شخص في آن واحد، وتقدم لنزلاء المجمع كافة وجبات الإفطار والغداء والعشاء بمواعيد صارمة، مع فرض انضباط دقيق في الوقوف بالصف واستلام الطعام المخصص لكل شخص.

يقام في المطعم فعاليات وأنشطة ثقافية واجتماعية ومناسبات أبناء المنطقة من احتفالات وأعياد ميلاد والمهجرين النزلاء في الجوار مرحب بهم من قبل أهالي المنطقة في مناسباتهم العامة.

كل الكتل السكنية لها أرقام وجهاز فني وإداري غاية في الانضباط والنظافة، مع مراعاة الالتزام بالقوانين، حيث لا يمكن التهاون في تطبيقها مهما كانت الظروف، فالطعام في وقته والنوم والنهوض منه في وقته المعلوم.

النظافة شيء مقدس، كل يوم في الصباح وبعد العصر يأتي عمال النظافة لتنظيف أروقة السكن الخاص بالمهاجرين وتبديل أكياس النفايات ورميها، كما يوجد فريق مختص بصيانة المياه والحمامات يقوم بتدقيقها بشكل يومي، في كل نزل من منازل المجمع التي بالمناسبة يطلق عليها اسم دار، كما أن هناك فريقًا مختصًا بنظافة الأسرة وفرشها، والوقت والنظام في مدرسة فريدلاند أمر لا يمكن التهاون به، كما لا يسمح بحال من الأحوال للنزلاء إشعال سيجارة في الغرف أو النزل «الدار».

يوفر التجمع للمهاجرين كل هذه الأشياء بشكل مجانٍ، ويقدم لهم بعض الثياب التي يتم جمعها من المتبرعين بسعر رمزي جدًا، وخلال فترة إقامة المهاجر في المجمع، يحصل على دورة اندماج متخصصة لشرح كل ما يمكن أن يطرحه المهاجر من تساؤلات من المدرسة إلى العمل وقانون المرور والجامعات والتأمين والتدريب.

كما يقدم دورة تأسيسية في مبادئ عامة في اللغة الألمانية كمدخل لتعلم اللغة بعد أن يتم فرز المهاجر إلى المقاطعة التي سيقيم فيها، ويوجد دار لتعليم اللغة والاندماج يشرف عليها أساتذة مختصون، كلٌ في مجاله، فضلًا عن مدرسين محترفين للغة والعلاقات المجتمعية، وقد عايشت ذلك بنفسي.

تم توزيع العائلات على الدور وبعض العائلات الصغيرة تم دمجها مع أخرى من بلدان مختلفة، كذلك فعلوا مع الشباب العازبين حيث جمعتنا غرفة واحدة ستة أشخاص من سوريا والعراق والسودان وإرتيريا، بهدف اندماجنا مع بعض كخطوة أولى لاندماجنا في المجتمع الألماني.

توفر دور السكن الإنترنت مجانًا، الأمر الذي جعل زملاء الغرفة ونزلاء «الدور» ينشغلون ويشتغلون في الإنترنت ووسائل تواصله المختلفة عن الغاية المنشودة وهي الانخراط بعلاقات جديدة يتم من خلالها التكاتف والتعرف على ثقافات الآخرين والاستفادة من تجاربهم التي مروا بها وما يحملون من أفكار وتطلعات لمستقبل مشرق في ألمانيا.

الشكر والاحترام كله لإدارة التجمع «المدرسة» وللعاملين فيها والمشرفين عليها.. لقد أدخلتم البهجة لقلوبنا، ولست مضطرًا بعد الآن أن أبحث عما يجب أن أقوله في حديث إعلامي أو ندوة أو الرد على تساؤلات المتسائلين عن احتياجات المهاجرين وأحوالهم، لأنني أعتقد أنّ نزلاء التجمع من المهاجرين «المستوطنين» لا ينقصهم شيء بل أنهم تعلموا سلوك وقواعد الانضباط، وفتحت لهم أبواب ألمانيا على مصراعيها، والبقية تقع على عاتقهم ومهاراتهم واستعدادات كل منهم لفرض نفسه في المجتمع الألماني.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى