لم تتردد تركيا لحظة في الدفاع عن حديقتها الخلفية، وإسقاط مقاتلة روسية في المناطق التي ترغب أن تكرّسها منطقة حدودية آمنة، حيث تقيم أقلية تركمانية ذات أصول تركية، تقاتل ضدّ نظام بشار الأسد، يبلغ قوام مقاتليها قرابة 9 آلاف رجل، وتتعرّض للقصف الروسي بصورة منتظمة ومتواصلة، على الرغم من أنّ المنطقة لا تخضع لسيطرة تنظيم داعش.
ولم يخطر ببال القيادة الروسية العليا أن تتجرّأ تركيا وتطلق النيران باتجاه مقاتلاتها، على الرغم من تحذيرات القوات العسكرية التركية بالتوقف عن اختراق الأجواء التركية، باعتبارها أيضاً أجواء تابعة لحلف الناتو. لكن، وقع المحظور، ولم تتقدم تركيا باعتذار للكرملين بصورة مباشرة حتى اللحظة، ولم تشهد العاصمتان تحرّكات دبلوماسية لاحتواء الأزمة. لذا، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حدث طعنة في الظهر، ومحاولة للحيلولة دون جهوده العسكرية لمواجهة الإسلام الراديكالي المتطرف. وقالت تركيا، على الفور، إنّ الضربات الروسية ليست موجهة ضدّ داعش، بل مركزّة ضدّ المعارضة السورية، وإنّ روسيا تعتبر كل الفئات الإسلامية المعارضة للأسد متطرفة.
تركيا ـ الجناح الجنوبي للناتو
تقتحم المقاتلات الروسية بصورة يومية أجواء دول البلطيق، من دون رادع، أو تخوّف من مواجهة أو مضادات تحول دون ذلك، وتدرك تركيا هذه الحقائق جيّدًا. لذا، استبقت الأحداث، وأسقطت المقاتلة الروسية، وكان في الوسع تجنّب ذلك، لكنّه درس قاسٍ، أقدمت عليه تركيا، ويحتمل تبعات سياسية واقتصادية كثيرة، من دون توقّع تصعيد عسكري، أخذًا بالاعتبار عضوية تركيا في حلف الناتو، والاعتداء على تركيا، حسب المادة الخامسة من اتفاقية الحلف، يعتبر بمثابة اعتداء على دوله. وقد أبلغت تركيا الرسالة، وليس من مصلحتها تصعيد الموقف أكثر. ولن تسمح بتحويل حدودها مع سورية إلى مسرح لعربدة الطيران العسكري الروسي.
وقد طلبت لقاءً عاجلاً لحلف الناتو في بروكسل، على المستوى الوزاري، لتوضيح أبعاد التصعيد العسكري الأخير. وأكد رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، حق بلاده في الدفاع عن أجوائها الإقليمية، وأوضح أنّه يتوجّب على العالم أن يدرك أنّ تركيا لن تتساهل في الدفاع عن أمنها القومي. وطالب السكرتير العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، موسكو وأنقرة بتخفيف حدّة التوتر وعدم التصعيد، مشيراً، في الوقت نفسه، إلى أنّ الطيران العسكري الروسي خرق الأجواء التركية، وأكّد دعم الحلف سيادة تركيا على كامل أراضيها وأجوائها الإقليمية. لكن، ليس من المتوقّع أن تصمت موسكو، وستردّ بآليات مختلفة، اقتصادية على الأرجح، توخّياً للحفاظ على كرامتها ومكانتها الدولية.
ردود الفعل اقتصادياً
توضح أولويات التبادل التجاري بين البلدين اعتماد روسيا، إلى حدّ بعيد، على الشريك التركي الاستراتيجي، خصوصاً في مجال الطاقة، وسيطاً لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، إثر فشل مشاريع الطاقة الأوروبية المشتركة، وأهمّها مشروع “دفق الجنوب” لنقل الغاز الطبيعي ومشروع “برغاس ـ ألكسندروبوليس” لنقل النفط الروسي الخام تحت مياه البحر الأسود حتى اليونان، ومنه إلى أوروبا. يعود فشل “دفق الجنوب” إلى بنود تجارية تحظر احتكار روسيا الكامل للخطّ كمستثمر للغاز ومورّد له، ما اضطرّ بوتين إلى البحث عن الوسيط التركي، ليعيد توريد الغاز الطبيعيّ إلى أوروبا.
كما وقّعت روسيا معاهدة لبناء أربعة مفاعلات نووية في تركيا، واستثمرت شركة “أتوم ستروي إكسبورت” قرابة ثلاثة مليارات دولار في بناء مفاعل أك كويو بكلفة قرابة 20 مليار دولار، لإنتاج 1200 ميغافولت، وليس من مصلحة روسيا وقف المشروع في هذا التوقيت، وهو الأول من نوعه في الإقليم، بالتزامن مع رفض بلغاريا بناء مشروع المحطة النووية الثانية “بيليني” بتأثيث وتمويل روسي، والمصادقة على مشروع بناء المفاعل الهنغاري “باكش”، وبناء مفاعلين لإنتاج الطاقة الكهربائية في الأردن، حتى العام 2022. ويعزو خبراء الطاقة حمّى بناء المفاعلات النووية إلى ارتفاع الطلب على الطاقة الكهربائية في إقليم البلقان، وستتمكن تركيا من تصدير الطاقة إلى الخارج خلال عقد، عدا عن التنافس الكبير بين الشركة الروسية وشركة “ويستنهاوس” الأميركية ذات الحظوظ الوافرة في الأسواق الأوروبية.
وعلى الرغم من الخلاف السياسي الواضح بين أنقرة وموسكو، إلا أنّ تركيا تدرك جيّدًا حجم روسيا في أسواق الطاقة، وهي التي تزوّد أوروبا بقرابة 40% من الغاز الطبيعي، وذكّرت روسيا بدورها الاستراتيجي بقطع إمدادات الغاز عبر الخطّ الأوكراني إثر إسقاط المقاتلة الروسية، وهي محاولة للضغط على بروكسل في أثناء الشتاء الأوروبيّ القارص. لكن، حتّى وإن أقدمت روسيا على تجميد هذه المشاريع، فسيكون هذا الإجراء، على الأغلب، مؤقتًا بانتظار خطوة إيجابية، أو مناسبة سياسية مواتية، كاعتذار تركي، أو ما شابه، لتجديد العمل بهذه المشاريع الحيوية، والتي تعني الكثير لروسيا، الراغبة بتصدير تقنيات الطاقة النووية إلى الخارج، والاستثمار في مبيع الغاز الطبيعي الموجود بكميات هائلة في أراضيها.
ستلجأ روسيا، بالطبع، إلى خفض أفواج السيّاح المتوجهين إلى تركيا، وطالب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، المواطنين الروس بعدم التوجه إلى الشواطئ التركية التي تحقّق أرباحاً بقيمة 5 مليارات دولار، مستقبلة ما يزيد على 4 ملايين سائح روسي سنوياً، للاستجمام في منتجعات تركيا الدافئة.
بعد إسقاط المقاتلة الروسية، خرجت أعداد محدودة من المواطنين في إسطنبول وموسكو، للتعبير عن رفض الضربات الروسية الموجهة إلى الحدود التركية السورية، وفي موسكو، تعبيراً عن السخط الشعبي الروسي ضدّ إسقاط المقاتلة. كما شهدت العواصم الأوروبية تظاهرات غاضبة أمام السفارات والقنصليات التركية، نظّمها وأشرف عليها اليمين الأوروبي المتطرف، مدعوماً باليسار المتعاطف أيديولوجيًا مع روسيا، ثمّ توجّه المتظاهرون لوضع أكاليل الزهور أمام مباني السفارات الروسية في العواصم الأوروبية، ما يدلّ على وجود انقسام واضح بين اليمين الأوروبي من جهة واليمين المتطرف واليسار في الجهة الأخرى من المعادلة.
وفي سياق التصعيد بين البلدين، منعت أجهزة الأمن الروسية في مطار شيريميتييوفو الدولي في موسكو عبور مواطنين أتراك إلى البلاد، على الرغم من أن بعضهم من رجال الأعمال، ويمتلكون تأشيرة شنغن، وآخرون متزوجون من روسيات، وبعد انتظار ساعات، أعيدوا بطائرة مغادرة إلى إسطنبول، وهدّدت الأجهزة باعتقال كلّ من حاول الاعتراض على الإجراءات الأمنية الصارمة.
صراع للسيطرة على إقليم البحر الأسود
تتفوّق تركيا عسكريًا على روسيا في إقليم البحر الأسود، وتسعى إلى الحفاظ على منزلتها فيه، وليس من المتوقع أن تتراجع لصالح روسيا. وقد صرّح رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، أنّ تركيا ستسقط مزيداً من الطائرات الروسية، إذا ما حاولت اقتحام أجوائها ثانية، والأمر يتعدّى الملف السوري بالطبع، ولن تتحمّل تركيا وطء أقدام الدبّ الروسي الثقيلة في هذا الإقليم، مهما كانت النتائج، فهي سيّدة الموقف.
من ناحية أخرى، لا تتوقّع تركيا أيّ دعم ميداني من أوروبا و”الناتو” في مواجهة الهجمات الروسية بالقرب من أراضيها، لعدم وجود خطط عسكرية لدى بروكسل، أو “الناتو” لمواجهة روسيا في الوقت الراهن، توضّح هذا عقب ضمّ شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي المستمر في شرق أوكرانيا، واقتحامها اليوميّ أجواء دول البلطيق. لذا، جاءت الخطوة التركية احترازية، وهي على علم ويقين بأنّ الطائرة المنكوبة على الأرجح روسية. ولا يمتلك مقاتلات من طراز سوخوي في الإقليم سوى الجيش السوري والقوات الروسية الموجودة في قواعدها العسكرية في سورية.
ردود الفعل سياسياً
تمتلك روسيا أوراق ضغط عديدة، ستعمل على تحريكها ضدّ تركيا، وقد طال الحديث، أخيراً، بشأن تنشيط جبهة “ناغورنو كاراباخ” المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا، الأولى موالية لتركيا، وأرمينيا تدين بالولاء لروسيا، ويمكن لموسكو أن تتسبّب بالحرج الشديد لأنقرة، حال إشعال هذه الجبهة، إضافة إلى الملفات العديدة في دول البلقان، متمثلة بالبوسنة والهرسك، وإمكانية تحريك الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، التي لا تتوانى لحظة عن رفع العلم الروسي في مسيراتها التضامنية، كلّما دعت الضرورة لذلك. وقد تلجأ روسيا كذلك إلى الضغط المباشر على تركيا برفع حدّة التوتر مجددًا في الملف القبرصيّ. ويدرك العارفون بشؤون البلقان جيّدًا أنّ تركيا قد وضعت خطًا أحمر يصعب تجاوزه، ويمكنها أن تغامر لتحمّل تبعات ذلك، مهما بلغ حجم الردّ الروسي، ورسالة تركيا تبدو واضحة ومؤلمة وباهظة الكلفة لكل الأطراف، لكنّها راغبة أكثر من أيّ وقتٍ للإبقاء على هيمنتها في حوض البحر الأسود.
ربّما علينا أن ندرك مزيداً من المواصفات القيادية لكلّ من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لفهم أسباب التصعيد والمواجهة الأخيرة، فكلاهما قادر على استخدام آليات وطرق شبه شمولية في إدارة البلاد والتحكّم بالسلطة، ما سمح لبوتين باجتياح جورجيا وأوكرانيا، وهاجم أردوغان الأكراد الذين يقاتلون داعش، من دون الأخذ بالاعتبار الانتقادات الدولية، ما أدّى إلى رفع الدعم الشعبي للزعيمين في روسيا وتركيا.
عدا عن ذلك، أدّت أحداث باريس، أخيراً، إلى تغاضي أوروبا عن الخروق الروسية، وقبول الدور الروسي المأمول في الإقليم، للتخلّص من مخاطر داعش، إثر تفشّي المخاوف والقلق في العواصم الأوروبية من ارتفاع قدرات داعش بالتأثير وتأطير خلايا إرهابية لضرب المرافق العامة.
إسقاط الطائرة الروسية بمثابة امتحان تركي لمعرفة الموقف الغربي وتحديده وموقف “الناتو” من سياستها واستعدادهما للدفاع عن أمنها القومي. وقد بحث أردوغان من خلال هذه المخاطرة عن إجابة لسؤال حاسم، متعلّق مباشرة بشأن إعادة ترتيب النظام العالمي للمائة عام المقبلة، وما هو الدور المرتقب لتركيا.
لكن، وعلى الرغم من الحدّة في التصريحات التركية، إلا أنّ المنطق السياسي سرعان ما سيفرض نفسه في هذا السياق، وسنشهد تراجعاً في المواقف المتشدّدة، وأولى هذه المؤشرات شكوى أردوغان من تجاهل بوتين الاتصالات الهاتفية التي يحاول إجراءها، والتبرير الذي تقدّم به للصحافة الفرنسية بعدم قدرة القوات التركية على تمييز هوية الطائرة والجهة التي رفعتها في الأجواء، ولو علمت تركيا ذلك لاستخدمت قنوات أخرى للتعامل مع الموقف، عدا عن إسقاط المقاتلة. وسنشهد مزيداً من محاولات تجاوز الأزمة بين البلدين، خصوصاً بعد التوافق الروسي الفرنسي والبريطاني في مواجهة داعش، ومشاركة ألمانيا على الصعيد اللوجستي. وأوروبا قلقة من المخاطر المترتبة على توسّع نفوذ داعش، ومن قدرة هذا التنظيم على التوصّل إلى العمق الأوروبي، وهذا سبب رئيس لقبول الدور الروسي في الإقليم.
كما يصعب تجاهل نشر روسيا منظومتها الصاروخية C400 لحماية مقاتلاتها، وتغطي هذه الصواريخ مساحة تقدّر بنحو 600 كلم مربع، وتشمل معظم أجواء سورية حتى الحدود الأردنية وقبرص ولبنان، ونحو 500 كلم داخل الأراضي التركية. والواضح أنّ تركيا وروسيا لا تسعيان إلى تصعيد الموقف، لكن القدرات الروسية في سورية باتت متطورة وقادرة على إصابة المقاتلات التركية، وعلى الأرجح، لن يلجأ الطرفان لمزيد من التصعيد العسكري في المستقبل المنظور، بانتظار تطور الأحداث على المستوى السياسي.
وقد صرّح وزير الزراعة الروسي، ألكسندر تكاتشوف، أنّ حصّة تركيا من أسواق الخضار والفواكه واللحوم تبلغ قرابة 20%، ما يعادل قرابة مليار دولار سنويًا. وهذه أولى القطاعات التي سيتم التخلي عنها، ومن المتوقع أن تتوجه الأسواق الروسية إلى البحث عن بدائل للحصول على المواد الغذائية، وسلّة الخضار خارج إطار المنظومة الأوروبية، بسبب الحصار الاقتصادي المتبادل بين الطرفين، والدول البديلة المتوقعة هي إيران والأردن وجنوب أفريقيا وإسرائيل والمغرب والصين والأرجنتين وغيرها.
المصدر : العربي الجديد