حلب، آستانة، موسكو… ما هي المحطة أو المحطات التالية؟ وما أهميتها بالنسبة إلى تركيب سورية المقبلة، أو”سوريات وليدة” يعتقد الكثيرون بأنها باتت في البرزخ الفاصل بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؟ تساؤل مشروع يطرحه السوريون، وينتظرون الإجابة عليه.
فقد أوحى التحرّك الروسي المكثّف بعد انقشاع غبار معركة التوافقات وعلامات الاستفهام في حلب، تلك المعركة التي انعكست على البشر والعمران والممتلكات قتلاً وخراباً ولصوصية، بوجود خطة روسية هدفها ترتيب الأمور ميدانياً وسياسياً استعداداً للتفاوض مع إدارة ترامب، التي يبدو أنها ستكون أكثر استعداداً من إدارة أوباما لاتخاذ قرارات تؤثر في الواقع الميداني، على الأقل من جهة تقاسم مناطق النفوذ كمرحلة أولى، انتظاراً لما سيكون مستقبلاً. ولعل الحديث الأميركي عن المناطق الآمنة يشير إلى جانب من ملامح الآتي الذي سيشهده السوريون في مختلف المناطق.
وبالعودة إلى مباحثات آستانة نرى أن الأطراف التي اجتمعت هي تلك التي تمتلك الوجود الميداني والنفوذ الواقعي في القسم الغربي من سورية، من الشمال إلى حدود دمشق. وربما هذا ما يفسر حرص الأطراف ذاتها (روسيا، تركيا، إيران) على التفاهم مع الفصائل الميدانية، أو بصيغة أخرى إفهامها ضرورة الرضوخ لنتائج التفاهمات التي فرضها الراعي الروسي بقوة آلته العسكرية الاستراتيجية، وذلك بالتناغم مع التعديلات التي شهدتها قائمة الأولويات الخاصة بالقوى الإقليمية.
وكان من الواضح أن الطرف الروسي سعى، ويسعى، منذ مدة، إلى إقامة علاقة مباشرة مع الفصائل الميدانية قبل معركة حلب الأخيرة وبعدها، بهدف التفاهم معها واحتوائها بهذه الصيغة أو تلك، تمهيداً لترتيب الأمور وضبطها مستقبلاً على المستوى العسكري.
أما اجتماع موسكو، فمن الواضح من خلال اختيار الأسماء، وطريقة توجيه الدعوات، أن هناك رغبة روسية في تجاوز هيئات المعارضة المعروفة. ويُشار هنا إلى الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات على وجه التحديد، هذا على رغم ملاحظاتنا الكثيرة حول فعالية عمل هاتين الهيئتين وآليته. كما أن هناك رغبة بينة في تجاوز مرجعية جنيف والقرارات الأممية الخاصة بالقضية السورية. بل إن موسكو ما زالت مستمرة في توجهها السابق القائم على أساس أن ما يجري في سورية صراع بين الإرهاب من ناحية والقوى لمناهضة له، ومن ضمنها النظام من ناحية أخرى. لذلك كان التأكيد المتواصل من جانب موسكو على ضرورة إعطاء الأولوية للإرهاب، وتوحيد جهود النظام والمعارضة في محاربته. هذا ما كان أثناء مفاوضات جنيف 2 وجنيف 3، وعبر التواصل المكثف مع الجانب الأميركي.
ومن المفيد ذكره هنا أن روسيا كانت تعتبر كل الفصائل المسلحة في المعارضة إرهابية، ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل قصفت كل تلك الفصائل بآخر تكنولوجيتها العسكرية في مجال الطيران على مدى أكثر من عام.
ولكن يبدو أن الروس اعتمدوا لاحقاً استراتيجية أخرى تعتمد ضرب الفصائل المعنية بعضها ببعض؛ بقصد إضعافها واستنزافها، ومن ثم إلزامها لاحقاً بالقبول بما يملى عليها، بما في ذلك مشروع الدستور الذي يعكس، بغض النظر عن مضمونه، رغبةً روسية في التحكّم بكل جوانب الورقة السورية، على الأقل ضمن الحيّز الجغرافي الذي أشرنا إليه.
بعد آستانة وموسكو، ربما تكون هناك محطة أو محطات أخرى في جنيف أو سواها تتكامل مع الجهود الروسية، وعبر التنسيق والتفاهم مع القوى الإقليمية المعنية بالشأن السوري لأسباب مختلفة، وذلك لكسب المزيد من النقاط ميدانياً وعسكرياً، استعدداً للمحادثات المقبلة التفصيلية مع الأميركيين حول الملف السوري من موقع أهميته الإقليمية، وفي إطار الاستفادة منه في عملية التوافقات حول الملفات الأخرى على الساحة الدولية.
وهنا لا بد من التوقف عند فكرة المناطق الآمنة في سورية التي تناقشها الجهات المختصة ضمن الإدارة الأميركية. فقد طالب السوريون المجتمع الدولي والإدارة الأميركية تحديداً بالتحرّك لحماية المدنيين. وذلك منذ بداية الهجوم المسلح السافر من جانب النظام على المدن والقرى السورية بكل أنواع الأسلحة. وتركوا أمر تحديد كيفية تنفيذ هذه المهمة للمجتمع الدولي. كما طرحوا غير مرة فكرة المناطق الآمنة التي كان من شأنها في ذلك الحين حماية الشعب من القتل والتشرد، وحفظ البلد من الدمار، وصيانة النسيج المجتمعي الوطني السوري.
والآن، وبعد مرور نحو ستة أعوام، تطرح هذه الفكرة مجدداً من جانب الإدارة الأميركية بعدما شُرّد أكثر من نصف الشعب السوري، وقُتل ما يزيد عن نصف مليون إنسان، وهناك من يقول إن الأرقام الحقيقية تفوق ذلك بكثير. وبعد أن تهتك النسيج المجتمعي السوري، تُطرح فكرة المناطق الآمنة التي تُوحي بأنها ستكون في صيغة ما تكريساً لوضعية مناطق النفوذ بين كل من روسيا وإيران وأميركا وتركيا، في المقام الأول، مع غياب عربي لافت ومدهش.
أما السوريون فخارج اللعبة تماماً، مع أن ما يجري يتصل مباشرة بمصيرهم ومصير بلدهم. ويبدو أن دورهم يقتصر من جهة المعارضة على التوزع بين المنصات المتكاثرة، والفصائل المتناحرة، ويقتصر من جهة النظام على التزام أوامر الراعي الدولي وشريكه الإقليمي، وتوقيع الاتفاقات المشبوهة التي تسلب الأجيال السورية المقبلة حقوقها.
ولكن على رغم كل ما حصل ويحصل، فإن الكلمة الأخيرة ستكون للسوريين إذا توفرت الإرادة الوطنية الراسخة، ليقرروا ما إذا كانوا يريدون المحافظة على وطنهم ونسيجهم المجتمعي موحداً.، أم أنهم سيسلمون أمورهم بصورة ما إلى القوى الإقليمية والدولية، وهذه القوى ستتعامل مع الوضع انطلاقاً مما يتناسب مع مصالحها وحساباتها المتباينة.
المعارضة بهياكلها الحالية وبخلافاتها وتناحراتها مُنهكة، عاجزة عن التصدي للمهمات المطلوبة. ولكن النخب السورية التي لم تتلوث بعد بآفات التشدد الديني والتعصب القومي والفساد بكل أشكاله ما زالت موجودة تمثّل خط الدفاع الاسترتيجي، وما زالت تمتلك الصدقية والكفاءة، وفي مقدورها التحرّك لممارسة الضغط من أجل تحسين أداء المعارضة، وتوحيد مواقفها وجهودها. كما يمكن لهذه النخب أن تتواصل مع مفاصل القرار الدولية والإقليمية المؤثرة، لوضعها أمام مسؤولياتها، وبيان حقيقة رغبة السوريين في حياة حرة كريمة، في وطن حرّ موحّد يطمئن الجميع، وطن لا مكان فيه للاستبداد والإرهاب.
المصدر : الحياة