الذكرى الرابعة والثلاثون لمجزرة حماة (شباط/ فبراير، 1982) تكتسب صفة خاصة هذه الأيام تحديداً، لأنها تعيد التذكير بمقدار صمت ما يُسمى «المجتمع الدولي» عن أهوال النظام السوري، وما يُصنّف منها في باب جرائم الحرب تحديداً.
وذلك الصمت، الذي بلغ شأو التواطؤ المباشر وغير المباشر أحياناً، انتقل بدرجات متفاوتة إلى الإعلام، الرسمي الحكومي أو الخاص المستقل؛ وكانت الذريعة عجز التكنولوجيا الإعلامية، يومذاك، عن تغطية ما شهدته المدينة من أهوال. اليوم تعيد الولايات المتحدة الكرّة، على نحو أو آخر، مع تنويعين: أنّ وسائط تناقل المعلومة شهدت تطورات هائلة، من حيث الانتشار والتغطية والتوقيت؛ وأنّ الصمت على الجرائم بحقّ الشعب السوري تتمّ تغطيته تحت شعار خدمة «العملية السياسية»، وتسيير مباحثات جنيف، والتفرّغ لـ»داعش». وفي المقابل، تواصل روسيا تشديد عمليات قصف المدارس والمشافي والأسواق الشعبية، وتعيد إنتاج نماذج مصغّرة من مجزرة حماة، كلّ ساعة وكلّ يوم، تحت ذريعة «محاربة الإرهاب».
ويُذكر أنّ الموقف الأمريكي الرسمي من مجزرة حماة 1982، بعد شيوع أخبارها تحديداً، وليس خلال تنفيذ الفظائع داخل المدينة؛ اقتصر على حركة خجولة محدودة، هي تصريح من الخارجية الأمريكية يقول بأنّ «السلطات السورية عزلت مدينة حماة عن العالم الخارجي»، بسبب «وقوع اضطرابات خطيرة». من جانبه كان جون كيفنر، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، قد نقل تصريحاً لوزير إعلام النظام، أحمد اسكندر أحمد، يفيد بأنّ المدينة تشهد «حملة تفتيش» ينفذها بعثيون وبعض عناصر الأمن «بحثاً عن أسلحة وعصابات إرهابية». وهكذا فإنّ خارجية ألكسندر هيغ أدّت واجب الحدّ الأدنى الذي أتاحته سياسة الرئيس رونالد ريغان يومذاك، في الموقف من أنظمة الاستبداد العربية عموماً، ونظامَيْ حافظ الأسد وحسني مبارك بصفة خاصة؛ واقتدى بهما الصحافي مراسل الصحيفة العريقة، فلم ينبس ببنت شفة!
أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، وهي ليست البتة أقلّ عراقة من اليومية الأمريكية، انتظرت شهرين على مرور المجزرة، ثمّ طلعت بالتالي: «الرواية الحقيقية» لما جرى في مدينة حماة «لم تُعرف بعد، ولعلها لن تُعرف أبداً». وإذْ اعترفت بأنّ المدينة صارت «خرائب» بعد أن قُصفت بالدبابات والمدفعية والطيران طيلة ثلاثة أسابيع، وأنّ «جزءاً كبيراً من المدينة القديمة قد هُدم تماماً، وسُوّي بالجرافات»؛ فإنّ المجلة لم تتحدث البتة عن مجزرة، وأسهبت في توصيف الصراع على النحو الأكثر غموضاً وركاكة في آن: متمردون، ضدّ قوّات حكومية! ولم تكن الـ»إيكونوميست» أفضل حالاً من الموقف الرسمي للحكومة البريطانية، وتحديداً مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء آنذاك، رغم الجفاء الظاهر الذي كان يهيمن على العلاقات البريطانية ـ السورية في تلك الحقبة.
وحدها صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية صنعت الفارق المميز، والفريد في الواقع، بفضيلة الروح الفدائية التي تحلّى بها أحد كبار مراسليها، سورج شالاندون. لقد خاطر الرجل بحياته، فتدبّر أمر التسلل إلى قلب مدينة حماة، منتحلاً اسم شارل بوبت، ومتخذاً لنفسه مهنة كاذبة هي التنقيب عن الآثار؛ فكان أوّل صحافي أجنبي يدخل المدينة الشهيدة، ويسجّل بأمّ العين الكثير (إذْ كان محالاً أن يلمّ بكامل) ما حاق بأهلها وبعمرانها، القديم قبل الحديث، من قتل وتخريب وتدمير. «الأموات أخذوا يُعدّون بالعشرات أوّلاً، ثمّ بالمئات، ثمّ بالآلاف خلال الساعات الأولى فقط. لقد رافقني أحد وجهاء المدينة، فتنقلنا من بيت إلى بيت، ورأينا العائلات الثكلى، والجثث التي تُجرّ من الأقدام، أو تُحمل على الأكتاف»، كتب شالاندون، متقصداً أن يخنق في داخله روح الروائي، هو المتمرّس في فنّ السرد والحائز على جوائز مرموقة، لكي ينتصر لواجب الإخبار الحقيقي الصرف، الأشدّ تأثيراً من أي مراس في التخييل.
ذاك هو درس حماة الأوّل في مضمار مواقف «المجتمع الدولي»، أسوة بوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في أوروبا وأمريكا خاصة؛ وهي مواقف يمكن، ويحدث بالفعل، أن تنحني أمام سطوة الصورة وما تخلقه من مضمار أخلاقي عام؛ ولكنها لا تنفّذ الانحناءة الكبرى، في نهاية المطاف، إلا أمام ميزان الربح والخسارة في احتساب المصالح. أما عند السوريين، فإنّ درس حماة 1982 هو سلسلة المجازر التي ارتكبتها كتائب مختارة من «سرايا الدفاع»، الخاضعة لقيادة العقيد رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد؛ أسوة بكتائب مختارة من «الوحدات الخاصة»، التي كان يقودها اللواء علي حيدر. تلك الألوية، وكانت تضمّ وحدات مدرّعة ومدفعية وقوّات إنزال مظلية، قامت بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، فقصفتها بالمدفعية الثقيلة والدبابات، قبل اجتياحها واستباحتها. الحصيلة كشفت عن عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، فضلاً عن 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وتهجير نحو 100 ألف من سكان المدينة، وكانت حينذاك تعدّ قرابة 400 ألف نسمة (هو العدد الذي سيتظاهر ضدّ النظام في ساحة العاصي، أواخر حزيران/ يونيو، بعد 29 سنة على المجزرة!).
و»درس حماة» هو، إلى هذا، مجزرة ارتُكبت بالدم البارد، عن سابق تصميم وتصوّر، لكي تبدو من حيث الشكل بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة. ولهذا فقد وافق حافظ الأسد على إعطاء القادة العسكريين نوعاً من التفويض المطلق، وترخيصاً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب؛ حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، والكيلاني، والحميدية، والحاضر)، أو إلحاق اضرار جسيمة بالمساجد (الشرقي، الشراباتي، الشيخ الكيلاني، الأفندي، الشريعة، السلطان، المدفن، الشيخ داخل، الشيخ زين، الحميدية، بلال بن رباح، الشيخ علوان، عمر بن الخطاب، المناخ، السرجاوي، سعد بن معاذ، الهدى، الجامع الكبير…)، والكنائس(أربع منها قديمة، نُسفت اثنتان، وهُدم جزء من الثالثة، ونُهبت محتويات الرابعة، بما في ذلك كنيسة حديثة ذات طراز معماري بديع نُسفت بالديناميت).
على صعيد «عقيدة» السلطة، ضمن التطورات التي صارت بعض مقدّمات المجزرة، كان المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الحاكم (كانون الأول/ديسمبر 1979) قد شهد إعلان رفعت الأسد، بوصفه عضو القيادة القطرية، أنّ مَنْ لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها حكماً؛ كما شهد اقتراحه الشهير، المطالب بشنّ حملة «تطهير وطني»، قوامها بإرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان الأسد الشقيق يستبق حركة الاحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980)؛ احتجاجاً على غياب الحريات، وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات، واعتقال عدد من أبرز قياداتها؛ وبعد أشهر، سوف تشنّ السلطة حملة واسعة ضدّ أحزاب المعارضة.
وهكذا أُريد لمجزرة حماة 1982 أن تصبح الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، وفي مستوى الشارع العريض والأحزاب المعارضة مثل النقابات والاتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. لم يحدث هذا، بالطبع، فلا المدينة خضعت، ولا سوريا رُوضت، ولا النظام تعلّم درساً واحداً مفيداً حول الخيارات الأمنية والعنفية. وأمّا حكومات «المجتمع الدولي» فإنها تواصل الصمت أو التواطؤ أو… ممارسة رفع العتب عن طريق نصف الانحناءة أمام انفجار الصورة الدامية، ليس أكثر.
المصدر : القدس العربي