عقارب الساعة تدنو من منتصف ليلة باردة، وكوكبة من اللاجئين السوريين بأحد الأحياء الراقية بالعاصمة المغربية الرباط، تتسلح بحرارة شوقها إلى وطن أبعدتهم عنه نيران الحروب،
ومساعدات المغاربة المقدمة من سياراتهم، تمنحهم دفء الصمود بالشارع في وقت متأخر تقارب فيه درجة الحرارة للصفر.
كان عددهم يفوق العشرة، أطفالهم الصغار يرافقونهم في التنقل بين مواقف السيارات عند إشارات المرور الضوئية في صورة متكررة تشهدها أيضا أبواب المحلات التجارية الكبرى بالأحياء الراقية في الرباط، ترسمها ورقة كتب عليها “أسرة سورية تطلب المساعدة”، ولهجة شرقية مختلفة وأناقة لا تخلفها العين.
وبترقب باد في عينيها، حتى لا تضيع بعض المساعدات من السيارات المارة، تحدثت مريم الشامي، سيدة في مقتبل العمر برفقة طفلين صغيرين، لوكالة للأناضول قائلة: “هذه أصبحت عيشتنا، إذا لم أقف في إشارة المرور، لا أجد ما أطعم به أطفالي”.
مريم فضلت أن تقطن بتمارة (مدينة متصلة بالعاصمة يمتاز الإيجار فيها بقيمة أرخص مما هو عليه بالعاصمة)، وقالت وهي تحاصر دموعا صعدت إلى عيناها المترقبتين: “نعيش بصدقات أصحاب السيارات، وانتقل إلى العاصمة للتسول بهذه الطريقة كي أتمكن من دفع تكاليف الإيجار”.
وقرب إشارة مرور ليست ببعيدة، وقف محمد عبد الله، رفقة زوجته وطفليه وأخت زوجته الصغيرة وأخيها الشاب وزوجته وطفله الرضيع، يقود عائلة تتحرك كموجة متناسقة، تتوزع بين السيارات، عندما تضيء الإشارة الحمراء، وتعود لتجتمع على قارعة الطريق عندما تتحول إلى اللون الأخضر، حتى الصغار ضبطوا تحركاتهم مع الإشارات الضوئية، كخلية نحل كل واحد منهم عرف مشربه.
“أب العائلة” عبد الله روى بمرارة للأناضول قسوة العيش وغلاء الإيجار في العاصمة تحديدا، وشرح أنهم يمتهنون التسول كي يؤمنوا لقمة العيش.
“العيش بمعنى الحياة”.. هذه الكلمات التي أفاضت العيون دمعا والتي راح دونها الآلاف من شهداء الحرب بسوريا قالها عبدالله مع تنهيدة مسموعة ملئها المرارة والتحدي، “فالحال بسوريا يقول لك إذا بقيت هنا تموت، وأنا مش ناقص (لا أريد) أموت، أنا بدي (أريد) أعيش وعيش ولادي”.
أكمل عبدالله والكل يستمع له في هيبة الكبير، مضيفا: “إيجار البيت كلفته ما يعادل 200 دولار، وإذا أضفنا الكهرباء والماء نصل 250 دولار، الله دخيلك من وين نجيبها (كيف نأتي بها)، وما في معاشات ولا شغل”.
ويسكن عبدالله بوجدة (مدينة حدودية مع الجزائر) يقطن بها أغلبية المهاجرين السوريين بعد أن دخلوها من الجزائر.
بخلاف الراغبين في الهجرة إلى أوروبا نفى عبد الله تخطيطه لأمر مماثل، وأوضح أنه مرتاح بالمغرب، و”لن أترك هذا البلد، إلا في حالة العودة إلى أرضنا بعد أن تضع الحرب أوزارها”.
وقبل الحرب كان الحديث عن السوريين بالرباط مرتبطا بمحلات الأكل الشرقية المعروفة بالحلويات الدمشقية والأطباق السورية المشهورة مثل الشاورما والفلافل وغيرها، وكان يربطهم بأناس أصحاب تجارة وثقافة.
غير أن تلك الصورة عن السوريين تبدلت الآن وتحولت إلى أخرى ترتبط بفندق صغير غير مصنف يوجد بقلب العاصمة، الذي يأويهم من برد ويطعمهم به المحسنون من جوع، يستأجرون به غرفا بثمن زهيد (10 دولارات للواحدة) ويتكدسون فيها رفقة أطفالهم.
صاحب هذا الفندق قال للأناضول، رافضا البوح باسمه، إن أغلب السوريين يقيمون بوجدة (شرق) ويأتون للعاصمة بهدف تسوية أوضاعهم القانونية، ولكونهم لا يقدرون على العيش بالعاصمة لغلاء المعيشة، يقضون ليلة أو ليلتين ويغادرون.
ولفت إلى أنه كانت تصله أفواج مجتمعة تملأ الفندق عن آخره، مشيرا إلى أن الأطفال كانوا يتنقلون بين غرف الفندق وكأنه بيت واحد.
وبينما يرى صاحب محل للمأكولات الشرقية، بوسط الرباط أن معظم اللاجئين السوريين لا يشتغلون ويفضلون التسول، قال عبد الله للأناضول: “نعم اشتغلنا، بيعطونا خمسين درهم (5 دولارات) في اليومية وأنا عندي إيجار بألفين درهم للشهر (200 دولار)، وعندي طفلين، شو بتكفي”.
وعن المهارات التي يتقنونها، أوضح عبد الله “كلنا يمكن أن نشتغل، بنعرف في الحلويات والمطاعم ويمكن نشتغل في البناء والتنظيف”.
ويصل غالبية اللاجئين السوريين إلى المغرب برا عن طريق الجزائر، ومنهم من خرج عبر تركيا، وآخرون جوا عبر الأردن، في رحلة يدفعون فيها أموالا باهظة دفعتهم لبيع ما يملكونه تاركين وراءهم بيوتا وسيارات وأرصدة بنكية، آملين العودة لوطنهم آمنين مطمئنين.
وبحسب إحصاءات نشرتها وسائل إعلام مغربية فإن عام 2015 دخل حوالي 449 سوريا مدينة وجدة عبر الجزائر.
وكان المغرب قد بدأ عملية تصحيح أوضاع الكثير من المهاجرين الأجانب منذ سنة 2014 ، في عملية استفاد منها حوالي 18 ألف مهاجر ولاجئ، نصيب السوريين منها وصل إلى 5250 شخصًا، وفق ما سبق لوزارة الداخلية المغربية أن أعلنته.
كما أطلق المغرب نهاية العام الماضي المرحلة الثانية من تسوية وضعية المهاجرين الذين يتواجدون بشكل غير قانوني في البلاد.
وتعتبر الحكومة المغربية أن استراتيجيتها لسياسة الهجرة واللجوء تعتمد على الرهان الإنساني والإدماجي (الاستفادة من التعليم والصحة) والرهان الاقتصادي والاجتماعي، أي اعتبار الهجرة فرصة وليست تهديدا.
وطن إف إم/ اسطنبول