لا مفاجآت تذكر في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن الدولي السبت الماضي، فكلا المشروعين الفرنسي والروسي كان على قائمة الرفض بين الفريقين المتضادين في الرؤية والهدف. ولعل هذا ما عبر عنه صراحة ممثل روسيا، وهو رئيس الدورة الحالية للمجلس، في وصفه الجلسة بأنها «واحدة من أغرب الجلسات التي تعقد»، إذاً يعلم المجتمعون سلفاً أنهم لن يقرّوا أي مشروع مقترح.
فبينما سعى الطرف الفرنسي ومن سانده إلى فرض هدنة في حلب قد يمكن لها أن تمتد لتشمل باقي سورية، بحيث تكون معبراً للدخول إلى حلبة التفاوض السياسي مجدداً، كان الطرف الروسي يسعى إلى فرض شروطه داخل حلب لتمكين النظام من العودة إليها للاستحواذ على طاولة تفاوض شبه خالية من طرف متعادل معها بالقوة العسكرية أو الديبلوماسية.
رغم ذلك، لا بد من المصارحة بأن النقاط المشتركة بين المشروعين كانت أكثر من نقاط الخلاف في مضمونهما، إلا أن حال الاستقطاب من جهة، والتعالي والغطرسة الروسية والتسلط، والشعور بالشبه وحتى التماهي بين النظامين الروسي والسوري، وكسر الثاني (السوري) لإرادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية بدت بمثابة رسالة للأول أي (الروسي)، أبعدت تماماً فكرة الوصول إلى مشروع مشترك كان من شأنه أن يعيد لمجلس الأمن بعضاً من تسميته في الحفاظ على ما تبقى من الأمن الدولي وأمن المنطقة.
أمام هذا الواقع الأممي الجديد، تعود الخيارات المفتوحة على كل الاحتمالات إلى الواجهة، والتي يأتي من ضمنها تراجع الإدارة الأميركية عن سياساتها التي أوحت بتركها منطقة الشرق الأوسط، ومنها سورية، للروسي مع بعض المساحات للشرطي الإيراني، فيما اعتبر بمثابة استدارة منها إلى مناطق جديدة أكثر مردودية عليها من الناحية الاستراتيجية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ويفهم من ذلك أن ما اعتبر بمثابة استدارة أو تخلّ عن المنطقة من قبل الولايات المتحدة كان موضع جدل، إذ ثمة من رأى أن في ذلك نوعاً من الاستدراج أو التوريط لروسيا لدفعها إلى الانغماس في مستنقع الحرب السورية لاستنزافها وإنهاك قواها العسكرية والديبلوماسية، فيما الولايات المتحدة تراقب من بعد من دون أن تتكلف شيئاً.
وفي هذا الإطار تحديداً، فإن وجهة النظر هذه تعتقد بأن هذه الاستراتيجية (الأميركية) وصلت حدّها الأقصى، أو أنها استنفدت أغراضها، بحيث بات ينبغي التعامل بطريقة مختلفة عن السابق، لا سيما ما يتعلق بتحجيم الدور الأوروبي في الصراع السوري لمصلحة الاستفراد الروسي، أو أن رغبتها في مزيد من الوقت لاستمرار الصراع لن تتحقق في ظل التورم السرطاني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يرى إمكان الحسم العسكري سريعاً للقضاء على معارضة مدعومة بالصمت الأميركي فقط، أي من دون دعائم حقيقية تقوي واقعها العسكري، ما من شأنه خروج الوضع على السيطرة ووضع الموقف الأميركي ومعه الأوروبي في مكانة حرجة أمام الغطرسة الروسية التشبيحية.
بناء عليه فإن الافتراق الأميركي – الروسي، بخاصة صلف بوتين وتصعيده العسكري على الأرض، يبدو أنه وضع الإدارة الأميركية أمام لحظة الحقيقة، في بحثها على انتهاج خيارات أخرى غير التي عودتنا عليها سابقاً، وإن كانت ستبقى في دائرة الردود المحدودة عسكرياً، على ما أعتقد، ومن ضمنها:
أولاً: إبداء مزيد من الضغط على روسيا بالوسائل السياسية والديبلوماسية، وربما تذهب بعيداً من مجلس الأمن الدولي الذي تملك روسيا مفاتيحه بالتساوي مع الدول الأعضاء الدائمة، عبر التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ قرار تحت بند «الاتحاد من أجل السلام» بغرض انتزاع موافقة أكثر من ثلثي الأعضاء، على ما تريده في سورية، وبهذا تكون الإدارة الأميركية أيضاً استرجعت الدور الأوروبي في الملف السوري، وربما تذهب نحو فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا تجعل موقفها أكثر ضعفاً أمام الرأي العام الروسي.
ثانياً: التعامل بجدية مع متطلبات «الجيش الحر» تأمين سلاح نوعي محدود من شأنه تشكيل تهديد حقيقي لقوات النظام وروسيا وإيران، وإعادة بعض التوازن إلى الصراع الدائر. وبداهة أن هذا تحديداً يستوجب إجراءات مقابلة من فصائل «الجيش الحر» وبعض الفصائل الإسلامية المعتدلة المدعومة من جهات عربية أو غيرها، تتمثل بتلبية النداءات التي وجهتها إليها المعارضة السياسية المتمثلة بالائتلاف وبعض مكونات الهيئة العليا للتفاوض بتوحيد قواها والانضواء في «الجيش السوري الحر»، متجاوزين بذلك سياسة الفصلنة والشعارات المتنوعة لمصلحة السعي إلى دولة سورية ديموقراطية متعددة للمواطنين الأحرار تحت علم الثورة معلنين وقوفهم مع القيادة السياسية في رؤيتها للحل السياسي المنشود.
ثالثاً: ضمن حملة المراجعات في الموقف الأميركي تجاه القضية السورية لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل القوى الإقليمية والعربية وضرورة إشراكها في صناعة الحل السياسي لأن الصراع الدائر بات أوسع من كونه قضية داخلية سورية، فهو الآن قضية إقليمية عربية ودولية بامتياز وصلت شظايا انعكاساتها إلى الجميع بلا استثناء.
رابعاً: مع استبعاد تدخل أميركا في حرب مباشرة على النظام، فإن التطورات الأخيرة من شأنها أن تشجع الولايات المتحدة على القيام بتحرك ولو محدود يلحق خسائر مؤلمة بالنظام ومن خلفه روسيا، وهو الأمر الذي حاولت الولايات المتحدة تجنبه، رغم أنها دأبت في تصريحات متضاربة على عدم نفيه بالمطلق، علماً أن ذلك قد يستدرج في المقابل رد فعل روسياً، ربما يأتي بدوره بتصعيد أميركي. وعموماً فإن ذلك كله سيتوقف على الأرجح على ردة الفعل الروسية إزاء التغييرات في الموقف الأميركي.
خامساً: طي ورقة التفاوض (في جنيف) بينما تستنزف كل القوى إمكاناتها عسكرياً وديبلوماسياً بحيث تكون أكثر استعداداً لقبول خيار المبعوث الدولي للمشاركة في حكومة انتقالية تبقي على النظام أو تعيد إنتاجه، حتى مع إنهاء حكم بشار الأسد شخصياً، علماً أن هذه مسألة من المبكر التحدث بتداعياتها، إذ إن ذلك يعتمد على مآلات التجاذب بين الرؤيتين الأميركية والروسية، كما يعتمد على كيفية إنهاء حكم الأسد.
أمام هذه الاحتمالات كلها ومردوداتها الكارثية، باعتبارها تثقل على الثورة السورية، بعد كل المداخلات التي أحاطت بها، يبقى هناك مجال لحركة المعارضة السورية، إن أقلعت عن الجمود، وأحسنت التصرف، بحيث تسعى إلى حسم أمرها وترتيب بيتها، وتشكيل قيادة سياسية – عسكرية تستحوذ على ثقة أوسع قطاع من السوريين لفرض حل سياسي عادل لا يهدر تضحياتهم ولا يبدد حلمهم بإقامة دولة الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية والديموقراطية.
هكذا تبدو خيارات السوريين معارضة ونظاماً شبه معدومة، على ما نلحظ، فالمعارضة بفعل العوامل الذاتية والمداخلات الخارجية تبدو قدراتها أقل من محدودة، وتتمثل في خيار واحد لا ثاني له هو تجاوز حال الانقسامات السياسية والعسكرية وتوضيح مواقفها من كل دخيل على ثورتها، بحيث لا يصبح ذلك عبئاً عليها وتتحمل كوارث ارتباطاته مع مشاريع غير سورية، ويجبرها على فتح جبهة جديدة إضافة إلى جبهتيها مع النظام و «داعش». وعليه يتوجب أن تحمل المصارحة بين قوى المعارضة مشروعاً سياسياً واقعياً يبعد كل العناصر غير السورية ويوفر خيارات الانضواء للسوريين في جيش حر واحد، وفي مشروع واحد يستعيد الأهداف الأولى للثورة السورية كثورة وطنية ديموقراطية تفتح على دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
في المقابل أيضاً فإن النظام في تعنّته ورفضه تقديم أي بوادر لحل سياسي مقبول، ومضيه في تسليم البلاد لقوى روسية وإيرانية وميليشيات طائفية، يبدو فاقداً للخيارات ليبقى مقيّداً بمزاجية بوتين الذي لن يتوانى في لحظة المقاربات المقبولة روسياً تركه يتهاوى عسكرياً وديبلوماسياً كما الحال اليوم اقتصادياً.
المصدر : الحياة