في محاولة لإلقاء الضوء على العالم الغامض للكتائب الإلكترونية الساخرة (trolls)، طلبت إحدى صحفيات الإذاعة الوطنية الفنلندية من مشاهديها مشاركة خبراتهم مع الجيش الإلكتروني الروسي، المكون من مجموعة من المشاغبين الصاخبين على الإنترنت.
وعلى الرغم من الاستجابة الهائلة لدعوتها، فإنها لم تكن في الاتجاه الذي أملت فيه الصحفية جيسيكا آرو.
تلقت جيسيكا بعض ردود الفعل التي توقعتها، والتي اشتبك أصحابها مع الأصوات العدائية الموالية للروس على الإنترنت، لكنها فوجئت بهجمة قاسية ووابل من الإهانات والمضايقات لها ولعملها بواسطة ذات الأصوات، بحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الإثنين 30 مايو/أيار 2016.
وقالت آرو (35 عاماً)، الصحفية الاستقصائية بقسم الوسائط الاجتماعية في الإذاعة الوطنية الفنلندية (Yle Kioski): “لقد احترق كل شيء في حياتي في الجحيم بفضل هذه الكتائب الإلكترونية”.
في الوقت ذاته لا تقتصر المضايقات الإلكترونية البذيئة على الكتائب الإلكترونية الموالية للروس، إذ لدى أوكرانيا وغيرها من الدول، التي ليست على وفاق مع الكرملين، جحافل من المنتقمين العدائيين على الشبكات الاجتماعية أيضاً.
حرب معلوماتية
لكن الأصوات الموالية للروس أصبحت ذات حضور صاخب وتخريبي لدرجة دفعت حلف الناتو والاتحاد الأوروبي إلى إنشاء وحدات خاصة لمواجهة ما يرونه تهديداً متزايداً، لا للنقاش المدني فقط، بل لسلامة النظام الديمقراطي الأوروبي وأمنه أيضاً.
ويرى راستيسلاف كاسير، الدبلوماسي المخضرم الذي عمل سفيراً لسلوفاكيا لدى واشنطن ولدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، أن هذه الحرب المعلوماتية “هي جزء من صراع أكبر” قد لا يتضمن سفك الدماء، لكن “خطورته مساوية للأعمال العدائية التقليدية”.
أما بالنسبة لآرو فتزايدت حدة المضايقات العام الماضي بعد زيارتها سان بطرسبرغ لإجراء بعض التحقيقات المرتبطة بـ”مصنع الكتائب الإلكترونية” الروسي، وعمل المكتب الضخم المتعلق ببث أخبار وتعليقات كاذبة، خاصة فيما يتعلق بأوكرانيا، وإغراق المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية بشجب ناقدي روسيا.
كما نظم بعض النشطاء الموالين للروس مظاهرة احتجاجية أمام مقر Yle في هلسنكي، بعد تحقيقات آرو، متهمين القناة بكونها مصنعاً للكذب أيضاً، لكن قليلاً من الأشخاص شاركوا في تلك المظاهرة.
في الوقت ذاته أُغرِقَت آرو بالرسائل الإلكترونية المسيئة، واتُّهمت بتجارة المخدرات على الشبكات الاجتماعية المختلفة، كما سخر منها أحد مقاطع الفيديو على يوتيوب.
وأضافت آرو، الحاصلة على الجائزة الفنلندية الكبرى للصحافة في مارس/آذار 2016: “هناك الكثير من طبقات الزيف التي تدفعك للتيه”.
وبحسب تجربة آرو، تحولت فنلندا، الدولة التي تتشارك حدوداً بطول 830 ميلاً مع روسيا والواقعة في قلب المخاوف الروسية من توسع الناتو تجاه حدودها، إلى جبهة مواجهة نشطة في الحرب المعلوماتية. وعلى الرغم من بقاء فنلندا خارج الحلف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، إلا أنها وسعت من تعاونها مع حلف الناتو دون أن يخيفها التدخل الروسي العسكري في أوكرانيا أو بحر البلطيق، كما ناقشت طلب التقدم للحصول على عضوية كاملة في حلف الناتو.
لكن الرأي الشعبي المنقسم يجعل من فنلندا هدفاً رئيسياً لحملة روسية.
فضاء معلوماتي صاخب
وترى سارا جانتونن، الباحثة بقوات الدفاع الفنلندية في هلسنكي التي نشرت كتابها “حرب المعلومات” العام الماضي، أن “هدفهم الرئيسي هو إبقاء فنلندا خارج الناتو”. وأضافت أيضاً أنه قد تم الهجوم عليها على الشبكات الاجتماعية، وأحياناً بواسطة نفس المعلقين، الوهميين على الأغلب، الذين هاجموا آرو.
كما استطردت قائلة: “إنهم يملأون فضاء المعلومات بالكثير من الإساءات والحديث عن المؤامرات، ما يدفع حتى العقلاء لفقد عقولهم”.
أما الرد الأوروبي الرئيسي فلم يتجاوز محاولة نفي الأكاذيب الصريحة حتى الآن، حيث أطلق الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني نشرة أسبوعية لمواجهة أكاذيب الكرملين وتزييفه بعنوان “مراجعة المعلومات المضللة”.
لكن الحقائق وقفت عاجزة أمام سيل الإهانات والاستهزاء الذي استهدف الصحفيين الأوروبيين والباحثين، وغيرهم ممن ارتبط اسمهم بحلف الناتو.
وأصر الناشطون الموالون للروس على حقهم في ممارسة حرية التعبير، وأنهم لا يتلقون أي أموال أو تعليمات من روسيا.
وفي معظم الأحوال أُرسِلَت الرسائل الأشد إساءة لآرو دون اسم أو من حسابات وهمية على فيسبوك أو غيره من الشبكات الاجتماعية.
ولم يعلن منتقدوها هوياتهم، إلا يوهان باكمان، أشد منتقديها ومؤيد الرئيس الروسي الذي لا يكل، والذي يسلط الضوء على الفاصل الواضح بين الإيذاء والمضايقات التي ترعاها الدولة، وبين التعبير عن الآراء الشخصية التي يؤمن بها الفرد.
ويقضي باكمان، الذي يجيد اللغة الروسية، جل وقته الحالي في موسكو، ويظهر بانتظام في وسائل الإعلام الروسية وفي المؤتمرات التي تنعقد في روسيا “كمدافع عن حقوق الإنسان”. كما يشغل منصب ممثل شمال أوروبا في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، المجموعة البحثية الممولة من قبل الدولة، بقيادة أحد ضباط مخابرات الحقبة السوفيتية.
“روسيا ضحية للتزييف”
كما نفي باكمان، الممثل أيضاً لجمهورية دونتيسك الشعبية الدولة الانفصالية القائمة بدعم روسي في شرق أوكرانيا، استهداف آرو كجزء من أي “حرب معلوماتية”، بل أصر على أن روسيا ذاتها هي ضحية حملة غربية للتزييف والتضليل.
وفي مقابلة حديثة أُجريت معه في موسكو، قال باكمان إن آرو كانت جزءاً من هذه الحملة الغربية، وإنها حاولت الحد من حرية تعبير مؤيدي روسيا في فنلندا بوصفهم بـ”الكتائب الإلكترونية الروسية”. كما أضاف أن شكواها من استهدافها وإهانتها “كانت مفيدة للغاية بالنسبة لروسيا”، إذ إنها دفع الكثيرين لإعادة التفكير قبل انتقاد موسكو.
وأضاف “إنها تقول إنها ضحية، ولا أحد يريد أن يكون ضحية”، واستطرد قائلاً: “لقد غير هذا من مناخ المجتمع الصحفي”.
كما قال باكمان إنه استخدم سُبله الخاصة لتمويل أنشطته التي وصفها بـ”الحملة الدفاعية” من قبل روسيا لمواجهة الدعاية الغربية، لكن أنشطته تتفق مع توجهات موسكو السياسية والجيوسياسية، خاصة فيما يتعلق بحلف الناتو، الذي يدينه بانتظام باعتباره أداةً للاحتلال العسكري الأميركي.
أما بعيداً عن الناتو، فقد مثلت آرو البعبع الأكبر لباكمان، بالتوجهات “المصابة بالرهاب الروسي” التي تمثلها في رأيه.
وبعد مرور مجرد أيام من الطلب الأول الذي قدمته آرو في 2014 بشأن الكتائب الإلكترونية الروسية، وصفها باكمان بكونها “مساعدة معروفة للقوات الأميركية وقوات بحر البلطيق” في حديثه لأحد المواقع الروسية القومية (Russian People’s Line) وغيره من وسائل الإعلام.
وفي نفس الوقت تقريباً، تلقت جيسيكا آرو مكالمة متأخرة على هاتفها المحمول من رقم في أوكرانيا، لم يتحدث أحد لكنها سمعت صوت لإطلاق الرصاص، وهو ما تبعته رسائل نصية وإلكترونية تصفها بـ”عاهرة الناتو”، بالإضافة لرسالة من والدها المزعوم، الذي توفي قبل 20 عاماً، يقول فيها “إنه يراقبها”.
أما الهجوم الأصعب في نظر آرو فجاء في مطلع هذا العام، حين قام أحد المواقع الإخبارية باللغة الفنلندية (MVLehti.net) والموجود في إسبانيا والذي يركز على تشويه المهاجرين، بالتنقيب ونشر سجلات المحكمة التي أشارت إلى إدانتها لاستخدام عقاقير الأمفيتامين بشكل غير قانوني في 2004، وتغريمها 300 يورو.
وحمل الموقع عنوان “جيسيكا آرو خبيرة معلومات الناتو تاجرة مخدرات مدانة”، كما نشر الموقع أيضاً صور لآرو وهي ترقص بزي فاتن في أحد الملاهي الليلية ببانكوك.
كان باكمان قد طلب ملف القضية القديم الخاص بآرو من المحكمة، وتلقاه بالفعل قبل وقت قصير من نشر هذه المستندات على الموقع، لكنه أنكر تمريرها إلى الموقع.
زعزعة الاستقرار بأوروبا
وأدى الادعاء الكاذب حول تجارة آرو للمخدرات إلى خطاب مفتوح وقعه أكثر من 20 محرراً فنلندياً غاضباً بسبب “تسميم النقاش العام” بواسطة “الإهانات والتشهير والأكاذيب الصريحة”. كما بدأت الشرطة الفنلندية التحقيق بشأن المضايقات وخطاب الكراهية الذي تبناه الموقع.
وقال ميكا بيترسون، المحرر بالوكالة الإخبارية الوطنية الفنلندية منظم خطاب المحررين المفتوح: “لا أعلم إن كان هؤلاء الأشخاص يتصرفون بناء على أوامر من روسيا، لكنهم يمثلون بوضوح من وصفهم لينين بأنهم بلهاء مفيدون”، وأضاف: “إنهم يتصرفون كما يريد بوتين، تريد العديد من الحركات القومية في فنلندا وغيرها من الدول الأوروبية زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما يتفق مع خطة بوتين”.
وأجاب إلجا يانيتسكين، مؤسس ومدير MVLehti في برشلونة بإسبانيا، عن الأسئلة التي وُجهت إليه عبر البريد الإلكتروني قائلاً إنه لا علاقة له بروسيا سوى لقبه، وإن توجهاته السياسية أقرب لدونالد ترامب عن بوتين.
وأضاف أن آرو لم تثر اهتمامه إلا بعدما اتهمت موقعه “بالترويج للدعاية الروسية”.
ومثل باكمان، نفى تلقيه أي أموال من مصادر روسية، مُصراً على أن موقعه، الذي أصبح أحد أكثر المصادر الإخبارية قراءة في فنلندا في غضون 18 شهراً، يمول نفسه من الإعلانات وتبرعات القراء.
وبينما اعترفت آرو باستخدامها الدوري للأمفيتامين في عشريناتها، فقد وصفت اتهامها بأنها كانت أو مازالت تاجرة للمخدرات بأنه “كذب تام”.
وأضافت “إنهم يسيطرون على دماغك، لتبدأ في التفكير: إن فعلت ذلك، فماذا ستفعل الكتائب الإلكترونية؟”.
المصدر : هاف بوست عربي