يعرّف التمييز نفسه بإبعاد نفسه عن الآخر وتعاليه عليه بطريقة أو بأخرى، فهو وإن اختلفت أشكاله وأسبابه تبقى النتيجة التي يؤدي إليها واحدة في خلق شرخ بين أفراد المجتمع ونأي الفرد بنفسه عن الآخرين ظنّاً منه تحلّيه بصفات وميّزات هي دون أن يستوعبها من يقابله.
التمييز الطبقي في المجتمع السوري وإن كان حالة قديمة متجذرة في المجتمع إلاّ أنّ ملامح الحضارة الحديثة ببيانها غطّت تلك البقعة السوداء لدرجة كبيرة، وإنما بقيت رواسبها موجودة في أذهان الكثيرين، ففي الوقت الذي كان فيه متمثلاً بالتجربة الإقطاعية والبرجوازية واحتكار الأموال والأرزاق من قبل فئة دون أخرى كان لا بدّ من النهوض من تلك الخشبة ذات الإتجاه الواحد والتي لا تسمح للناس بالنظر يمنة ويسرى.
تلك الطحالب العالقة إلى الآن في أدمغتنا حتى وإن خلعت ثوب الطبقية بالمعنى القديم إلاّ أنه أخذ أشكال جديدة مع بداية الألفية الثانية، ففي الوقت الذي اعتبر الغني أن من حقّه التفاخر على الفقير وعدم النزول إلى منزلته، وفي الوقت الذي كان الغنى مرتبطا بالعلم والتعلّم والثقافة الواسعة، اعتبر الناس الفقر المادي فقراً في كل شيء أيضاً، فالفقر المادي كان يجلب لصاحبه فقراً اجتماعياً في العلاقات وحرماناً من جلسات الوجهاء، إلى جانب الفقر في العلم وعدم القدرة على تحصيل المعرفة.
أما حالياً فتطور التكنولوجيا وقدرات التواصل السريع حوّلت ذلك التمييز الطبقي بين الفقير والغني وابن الريف وابن المدينة إلى حالة هشّة بالكاد يمكن ملاحظتها في مجتمعنا السوري، فالحرب الصامتة بين ابن الريف وابن المدينة طوال عقود طفت إلى السطح أخيراً ليجاهر كل منهم للآخر بحقيقة ما يشعر، تلك الحقيقة التي لم تختلف باختلاف بيئاتهما، فمنذ انطلاقة الثورة السورية حدث ذلك الاختلاط بين البيئتين بحكم النزوح واللجوء، فابن المدينة المتفاخر بانتمائه تحول إلى ابن للريف بين ليلة وضحاها، مما قرّبه ممن كان يعتبره نقيضاً له ليكتشف سريعاً أنه لا يكتمل إلاّ به.
ذلك الإكتشاف في ضرورة تواجد هذه الازدواجية والتناقض المؤدي إلى التكامل حكماً جاء بعد مخاض عاشه الطرفان واستنزفت منهما أيّما طاقة، ففي المراحل الجامعية والتي يعتّد الشاب فيها بنفسه وجد المدني في الريفي سذاجة ومرحاً طفولياً، في الوقت الذي رأى الريفي في المدني صلابة غير مبررة وقوانين هشّة في الحياة لا ضير من كسرها أحياً، وهذه كانت دائماً الأبجدية التي نبحث عنها في جمع الضدين المتكاملين لا المتنافرين، وهنا كان للجيل الحديث والشباب خطوة واعدة في رأب ذلك الشرخ وجعله جسراً يعبر كلّ منهما إلى الآخر من خلاله.