تعيش المسألة السورية مرحلة ما بعد بشار الأسد. بدا أن العالم، في شرقه وغربه، حسم أمره في هذا الشأن. الغرب لا يرى مستقبلا لسوريا ببقاء الأسد. روسيا تكتشف أن دعمها لزعيم النظام في دمشق “ليس من غير شروط”. والسيد مقتدى الصدر، المفترض أنه يمثل تيارا إيرانيا في العراق، ينصح الرئيس السوري بالاستقالة.
يشي الحديث الكثير عن مصير الأسد داخل المواقف الصادرة عن واشنطن وباريس ولندن، وعن اجتماع وزراء مجموعة الدول السبع في إيطاليا، كما عن تصريحات متصاعدة للرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه الذي نوّع مضمون الأوصاف السيّئة التي يكيلها لرأس النظام السوري، بأن أمر مستقبل الأسد في أي تسوية سياسية لم يعد العامل الأساس، وأن لبّ الصراع الحالي يروم بلورة ترتيبات تعيد تنظيم العلاقة الغربية مع روسيا، وأن ملف الأسد لا يعدو كونه مفتاح تفاوض لكل الملفات.
أمام روسيا وهذا الغرب خوض تجربة جديدة لم يسبق لها مثيل منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بنت المنظومة الغربية سياساتها الخارجية بقيادة الولايات المتحدة مستندة على غياب العامل الروسي واضمحلال ثقله في المعادلة الدولية الشاملة. وبنت روسيا سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة مستندة على غياب استثنائي للأجندة الغربية داخل الفضاء السوري، على النحو الذي صوّر لموسكو سهولة التمدد وسيولته. لكن الطرفين يستيقظان في الأيام الأخيرة على حقائق أخرى يبدو الجانب الارتجالي بها كبيرا.
لم يكن بالإمكان لجورجيا وأوكرانيا أن تكسرا القوة العسكرية الروسية التي اخترقت حدودهما عامي 2008 و2014. فروسيا التي راكمت ترسانتها وطوّرت أدوات الفتك لديها استعدادا لمواجهة الدول العظمى، سهُل عليها تحقيق إنجازات عسكرية تكاد تكون مجانية ضد الدولتين.
كما أن روسيا التي تنعّمت بفراغ الفضاء السوري ومحدودية تسلّح مناوئي نظام دمشق في الميدان، سهُل عليها تحقيق تفوّق نوعي أنقذ نظام دمشق من سقوط حتمي وقلب موازين القوى لصالحه. لكن روسيا التي غنمت “فراغ أوباما”، وفق تسمية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وراحت تصول وتجول مطلّة على العالم أجمع بصفتها الدولة العظمى، تجد نفسها هذه الأيام في مواجهة كتلة غربية تستعيد لغة الحرب الباردة وتستدعي لوازمها.
بالمقابل، ورغم الانسجام الشكلي الذي تعبّر عنه مواقف العواصم الغربية، لا يستهين خصوم موسكو في العالم بالتحدي الذي باتت روسيا بوتين تفرضه. وهم من خلال مروحة التهديدات التي لوّحوا بها يميلون نحو إيجاد نقطة توازن تعيد استيعاب الفعل الروسي داخل المنظومة الدولية، ويسعون إلى تلافي مواجهة رد فعل مرتبط بطباع بوتين نفسه والذي مازال يندرج في خانة ما هو غير متوقع لا يمكن رصده مسبقا.
وإذا ما راهنت موسكو على تعدد الجبهة المواجهة (وبالتالي احتمالات تفسّخها) مقابل وحدة الموقف الروسي بقيادة بوتين والوحدة الموضوعية لموقفيْ طهران ودمشق الحليفين، فإن مجموعة الدول السبع وما صدر عن منابر الاتحاد الأوروبي كما عن كندا وأستراليا واليابان، بدا متقدما في تأييده لواشنطن وفي انتقاده لموسكو وفي إدانته لدمشق على نحو بات فيه التراجع صعبا.
ولئن ألحقت واشنطن موقفها المتصلّب ضد استخدام السلاح الكيميائي في خان شيخون في سوريا بتحريك قطعها البحرية باتجاه شبه الجزيرة الكورية، فإن الإدارة الأميركية تظهر يوما بعد آخر عزما متناميا لإعادة الإمساك بالملفات الساخنة التي ساهمت “عقيدة” أوباما في تفاقم العبث والميوعة داخلها. وفي ذلك ما يجعل موسكو أمام مشهد كلي يتطلب منها ارتجال عزف جديد لا يبدو أن الصين منسجمة مع أنغامه.
ربما من المبكر تقييم ما رسمه ترامب وفريقه من تبدّل داخل الخرائط الدولية الرتيبة. تفرج الأعراض الأولى لاجتماعات الرئيسين الصيني والأميركي في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي عن تراجع منسوب التوتر الذي كان متوقعا بين واشنطن وبكين. ابتلعت بكين برشاقة مسألة إرسال صواريخ توماهوك إلى قاعدة الشعيرات في سوريا أثناء عشاء ترامب مع جين بينغ. باتت القيادة الصينية تتحدث عن تسوية سياسية للمسألة السورية، لكنها وحسب ما أعلن في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، باتت، بعد مداولات جرت مع دبلوماسيين من كوريا الجنوبية، مستعدة لممارسة ضغوط كبرى على كوريا الشمالية لوقف استفزازاتها المهددة للسلم العالمي برمته.
أربكت صواريخ الشعيرات كل الاصطفافات التي عملت موسكو على العناية برسمها في السنوات الأخيرة. لبكين مصلحة في صيانة تجارتها داخل السوق الأميركي وعدم استفزاز مارد اقتصادي كان متساهلا. ولأنقرة مصلحة في تظهير التباين مع موسكو وبالتالي فك تحالف ركيك مع روسيا لم يؤمن به الطرفان لحظة واحدة. وللاتحاد الأوروبي ودول الأطراف الدولية المتحالفة تقليديا مع الولايات المتحدة مصلحة في إظهار لحمة وتضامن مع واشنطن ومع إدارة ترامب بالذات في معركته ضد روسيا.
فجأة، وبغض النظر عن الردح الذي يصدر عن موسكو، تتراجع روسيا إلى مصاف دول الهامش وتتلطى خلف حلف يجمعها بإيران ونظام دمشق، وتتعجّل اجتماعا فلكلوريا لوزراء خارجية الدول الثلاث. لا يبدو أن القيادة الروسية قادرة على إخراج أوراق كثيرة من جعبتها الداخلية، فسر النجاح الروسي والصعود الذي حققته المغامرة السورية لموسكو يكمنان في رعاية ومباركة ومواكبة واشنطن وأوروبا والعالم الغربي لها. ويكفي أن تتوقف هذه الرعاية أو تتغير قواعدها حتى يرتبك وضع روسيا في العالم أجمع.
تعوّل موسكو كثيرا على طراوة النظم السياسية الغربية مقابل صلابة النظام السياسي الروسي. لا رأي عاما في روسيا بإمكانه التأثير على قرارات بوتين، ولا صحافة حرّة في روسيا بإمكانها محاصرة مزاج الكرملين، ولا ردّ فعل يُذكر أو يُنشر حول سقوط قتلى روس داخل الأتون السوري، ولا جدل داخليا حول علاقة العمليات الإرهابية الأخيرة التي ضربت البلاد بالتورط الروسي بالحرب في سوريا. تختلق الصحافة الروسية تقريرا منسوبا إلى جهات سويدية يبرئ نظام دمشق من جريمة خان شيخون، شأنها في ذلك شأن المنابر الركيكة التي تدور في فلك دمشق وطهران. وفي سرد أي روايات تصدر عن موسكو، لا معارضة روسية بإمكانها دحض ذلك وتفنيد محتوياته.
بالمقابل يعمل النظام السياسي الغربي على تفكيك الرواية الغربية الرسمية ويمعن فيها انتقادا وتشكيكا. وفيما تخال موسكو أن مفاعيل القضم الداخلي قد يوهن القرار الغربي، فإنها بذلك تتجاهل أن التعدد وحرية الرأي وتناقض المصالح وتقاطعها هي من السمات البنيوية للنظم الديمقراطية، وأن السجال المفتوح لم يقف يوما حائلا ضد القرارات الكبرى التي تتخذها الدول. ويبقى مثال التدخل في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، نماذج لطبيعة التعايش ما بين القرار والضجيج حول القرار.
يقول وزير الخارجية الروسي إن موسكو لا تفهم حتى الآن ماذا يريد الغرب. كذّبت موسكو رواية دمشق حول عدم قيامها بأي طلعات جوية فوق خان شيخون وأكدت أن طائرات النظام قصفت مخزنا للأسلحة الكيميائية تابعا لـ”الإرهابيين”، لكنها تعود لتثير على لسان الرئيس فلاديمير بوتين مسألة أن تكون القصة كلها مختلقة. لا تفهم روسيا ماذا حصل في خان شيخون، ولا تفهم ما صدر عن اجتماع مجموعة الدول السبع، ولا تفهم تبدل موقفيْ أنقرة وتل أبيب، ولا تفهم صمت الصين، ولا تفهم لماذا يضرب التوماهوك سوريا؟
تعكس “قلة الفهم” التي تصطنعها موسكو أعراض ارتباك أصاب سلوكها اليومي في التعامل مع العالم، كما تشي بالحاجة لشراء المزيد من الوقت قبل أن تشن الهجوم المضاد.
المصدر : العرب