تحقق، أخيراً، حلم رجب طيب أردوغان في قيادة تركيا بنظام رئاسي، وإن كان مشوباً بعض الشيء في اسمه: «نظام حكومة رئيس الجمهورية» وليس «النظام الرئاسي» بلا أي إضافة أو استدراك.
جاء هذا التلفيق في الاسم تلبية لشرط الحليف اللدود دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية. كانت رغبة أردوغان الأصلية أن يكون النظام رئاسياً بالاسم والمضمون، وأن يلقب بالكلمة العربية Reis على ما يشير الفيلم الذي عرض في شهر آذار/مارس الماضي ويحمل هذا العنوان ذي الأصل العربي، ويتناول جزءًا من سيرة الرجل القوي الذي يقود تركيا، عملياً، منذ خمسة عشر عاماً، ويعتبر، بحق، ثاني أهم سياسي عرفته الجمهورية التركية بعد مصطفى كمال أتاتورك.
من الآن وصاعداً لن يكون هناك رأسان للدولة، رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وذلك بعدما تم، مسبقاً، بتر الرأس الثالث الأهم وهو قيادة أركان الجيش التركي. كما تم بتر «الرأس الخفي» إذا جاز التعبير، وأعني به الداعية الإسلامي فتح الله غولن الذي كان يراوده حلم أن يكون خميني تركيا السني العائد من منفاه إلى قيادة الدولة في بلده، على أكتاف الجماهير، وتبدد الحلم هذا بعدما استبدل بها الدبابة العسكرية، في المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، وفقاً للرواية الرسمية.
جاءت نتيجة الاستفتاء مخيبة للآمال، أيضاً، لأن فوز التعديلات الدستورية كان بفارق شعرة (51٪ من أصوات المقترعين) على رغم تسخير كل إمكانات الدولة والإعلام العام والخاص لمصلحة الحملة. فالنتيجة تقول بصراحة لا يمكن تجاهلها: صحيح أن نصف الشعب التركي أراد هذا التغيير، لكن النصف الآخر وقف ضده بوضوح، ولم يكن غير مكترث. هذا غير تشكيك حزب الشعب الجمهوري المعارض بنزاهة الاقتراع، بدلالة قبول اللجنة العليا للانتخابات بأوراق اقتراع لا تحمل ختمها، كما هو مفترض قانوناً، وتقديمه اعتراضاً بشأن ذلك.
من المرجح أن هذا الاعتراض لن يغير شيئاً من النتيجة المعلنة، ولا كذلك التقرير الأولي الذي قدمه وفد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي دعتها الحكومة لمراقبة عملية الاقتراع، وانطوت على بعض الانتقادات، ورد عليها أركان الحكومة بقسوة. وقال الرئيس في رده على اعتراض «الشعب الجمهوري: «من امتطى الحصان تجاوز أُسكُدار» وهو مثل شعبي معروف يعني أن الفرصة ضاعت، ولم يبق أمام المعارضة ما يمكن عمله.
بعد نحو عشرة أيام ستعلن النتائج الرسمية، وسيدعو حزب العدالة والتنمية الرئيسَ أردوغان للانضمام إلى صفوفه، على ما أعلن رئيس الحزب الحالي وآخر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية التركية بن علي يلدرم، بعد فراق ظاهري بين الحزب وقائده الكاريزمي، منذ آب/اغسطس 2014 يوم فاز أردوغان بمنصب رئاسة الجمهورية وقدم استقالته من الحزب وفقاً للأصول.
سيختبر الأتراك، عملياً، النظام السياسي الجديد، وهي الطريقة الوحيدة، بالنسبة لعامة الشعب، لمعرفة آثار هذا التغيير على حياتهم. ذلك أن كثيراً ممن شاركوا في الاستفتاء، قبولاً بالتعديلات أو رفضاً لها، لا يعرفون مضمون ما صوتوا عليه. فقد غلب على الحملة الانتخابية طابع الاستقطاب الحاد بين محبي الرئيس ومعارضيه الكارهين، وكأن الأمر يتعلق بانتخابه، لا بتعديلات دستورية شملت 18 مادة مع تفرعاتها. فركزت حملة المعارضة، وكانت واهنة جداً وعانت من التضييق، بما في ذلك اعتقال قادة حزب الشعوب الديمقراطي، على «دكتاتورية» أردوغان المفترضة التي يريد تكريسها دستورياً، فيما صورت الحكومة التعديلات بوصفها مسألة حياة أو موت بالنسبة لمستقبل تركيا وقوتها ومنعتها ومكانتها الدولية.
لفت الكاتب الإسلامي فهمي كورو، في مدونته، الأنظار إلى نقطة مهمة: كان بوسع الحكومة والرئيس أردوغان، إلى الآن، إلقاء المسؤولية على المعارضة أو قوى دولية، في تعثر أحوال البلد أو عرقلة حل مشكلاته الكثيرة. وكان فحوى الحملة السياسية السابقة على الاستفتاء يتحدث عن مزايا استثنائية للنظام الرئاسي: التخلص من مساوئ ثنائية الرأس (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة)، والتخلص من مساوئ الحكومات الائتلافية التي يمكن لأحزاب صغيرة أن تتحكم بمصيرها، والتخلص من عدم الاستقرار السياسي الملازم لحالة الحكومات الائتلافية، حيث يمكن أن تسقط الحكومة بانسحاب أحد الأحزاب منها، فتصبح الانتخابات المبكرة قدراً لا مفر منه. وكل ذلك مما يؤثر سلباً على الاقتصاد وأحوال المواطنين.
والمثال الوحيد الذي كان أنصار الحكومة يسوقونه تدليلاً على كلامهم، هو اللوحة السياسية التي أفرزتها انتخابات 7 حزيران/يونيو 2015 حيث دخل البرلمان حزب رابع ـ حزب الشعوب الديمقراطي ـ فاختلت التوازنات السياسية وتعذر تشكيل حكومة ائتلافية بعدما خسر حزب العدالة والتنمية الأكثرية المطلقة التي تخوله تشكيل الحكومة بمفرده.
فباستثناء هذه الحالة، لم تشهد تركيا اضطراراً لتشكيل حكومات ائتلافية، منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2002.
والانتقال إلى النظام الرئاسي لا ينفي، أتوماتيكياً، هذا الاحتمال. صحيح أن الرئيس هو الذي سيشكل الحكومة ويرأسها، لكن البرلمان سيصادق عليها. وفي حال تكرار حالة مشابهة لنتائج حزيران 2015، سيضطر الرئيس لمشاركة حزب آخر في الحكومة لكي ينال ثقة البرلمان.
«بات الرئيس يملك العصا السحرية» يقول الصحافي المخضرم فهمي كورو، سيكون مطلوباً منه حل جميع مشكلات البلاد بواسطتها، ولن يستطيع التذرع بتشتت السلطة وتوزع الصلاحيات. فهل سيكون قادراً فعلاً على اجتراح المعجزات في بلد يحتاج منها الكثير؟
يبقى أن أكثر من 86٪ ممن يحق لهم الانتخاب والاستفتاء، قد شاركوا في الاقتراع فعلاً. وهذا رقم قياسي بالمقاييس الدولية، يحسد عليه الشعب التركي. مبروك للشعب التركي هذا الاستفتاء، ولتكن نتائجه خيراً على الجميع، موالين أو معارضين.
المصدر : القدس العربي