منذ أيام مرت الذكرى الثالثة عشرة لسقوط العراق، وذلك عندما دخلت القوات الأميركية بغداد في الأسبوع الأول من شهر نيسان (أبريل) ٢٠٠٣. ستبقى تلك الحقبة أساسية لفهم بعض أهم أوضاع العالم العربي الراهنة، خصوصاً في العلاقة بين التدخل الأجنبي والاستبداد في العالم العربي. فسقوط بغداد كان مدخلاً للسقوط العربي ثم مدخلاً لما نحن فيه الآن.
إن سقوط العراق عام ٢٠٠٣ في قبضة الغزو الخارجي والاحتلال الأميركي لم يكن بعيداً عن سلوكيات نظام صدام منذ استلم السلطة في العام ١٩٧٩، وبالفعل فقد بدأ أيامه الأولى بسلسلة إعدامات ضد خصومه من القادة البعثيين. لكن الخطأ الإستراتيجي الثاني كان في شن حرب على إيران بعد فترة وجيزة من ثورتها في العام ١٩٨٠. تلك الحرب كان بالإمكان تفاديها. لهذا سيكتشف صدام أن حربه ضد إيران التي ستستمر لثماني سنوات قاتلة ستستنزفه وهذا سيؤدي به إلى مأزق كبير. إن شنّه الحرب على إيران عنى في التطبيق العملي المساهمة في إخراج المارد الإيراني من قمقمه. حرب إيران كلفت العراق كثيراً، لكنها كلفت الخليج المتضامن مع صدام الكثير من المال والتخندق وصولاً إلى توتر العلاقات الشيعية- السنية في منطقة الخليج.
لقد أثرت تلك الحرب على إيران بأنها جعلتها تزداد تخوفاً من دور الولايات المتحدة الساعي لإسقاط نظامها كما حصل في السابق مع محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني في أوائل الخمسينات. لقد دفعت الحرب العراقية- الإيرانية إيران إلى التمترس والتموضع في الأيديولوجيا مع ارتفاع تخوفها من القواعد الأميركية وحاملات الطائرات المحيطة بها في الإقليم. إن حرب العراق وإيران دفعت إلى قيادة العمل الإيراني قوى أكثر راديكالية واستعداداً لاتباع استراتيجيات هدفها اختراق العالم العربي استراتيجياً وسياسياً.
لقد بنى صدام جيشاً قوياً، لكنه، مثل الكثير من الدول العربية، لم يبنِ مؤسسات سياسية ومجتمعية لديها تمكين وحسن إدارة ضمن إستراتيجية متفق عليها، فككل الديكتاتوريات كان نجاح النظام العراقي متوقفاً على شخص صدام والكاريزما التي امتلكها ودور المقربين منه، وهذا بالتالي حوّل النظام السياسي إلى حالة من الضعف الذاتي غير المرئي. إن كل نظام سياسي يقوم على الخوف من المـؤسسات ومن بروز قادة آخرين في إطار نمو المجتمع ومؤسساته وإصلاحاته هو نظام قابل للكسر في لحظة مفصلية.
من أخطر ما قام به نظام صدام حسين، وهو بهذا ليس استثناء لسياسات شبيهة في أنظمة عربية أخرى، هو تعامله السلبي مع الشيعة في مجتمعه، ففي العام ١٩٨٠ ومع بداية حربه ضد إيران أسقط صدام حسين بقرار مفاجئ جنسية مئات الآلاف من العراقيين بحجة أن جدهم الخامس من إيران، وبما أنه لا يوجد قضاء مستقل ليوقف قراراته، فقد أدت هذه العملية إلى تهجير مئات الآلاف من العراقيين إلى إيران، وهؤلاء سينخرطون مع الوقت في الحياة الإيرانية. وقد حصل شيء مواز عندما هجّر العراق آلاف المعارضين ممن انتشروا بين الولايات المتحدة ولندن والدول العربية. كل هذا مهد لدور معارضات الخارج المفصولة عن العراق والساعية لإسقاط النظام مهما كلف الأمر. من هنا دور المعارض البارز أحمد الجلبي، ودور «منظمة بدر» في إيران. وعندما سقط النظام العراقي في بغداد عاد كل هؤلاء حاملين معهم تجاربهم في المنافي.
لقد صنع صدام مشكلة مركبة للعراق، فهو تصارع مع الشيعة ودفعهم باتجاه إيران، وتصارع مع الأكراد ودفعهم للعيش في مناطق محمية دولياً خارج السيادة العراقية، كما تصارع مع المعارضة ودفع معظمها نحو الغرب بالإضافة إلى قطاع منها نحو إيران وهي الدولة الأكثر استعداداً لاستقبال المعارضة بسبب طبيعة علاقة صدام السلبية معها.
لقد خلق الرئيس العراقي السابق صدام حسين ظروفاً نموذجية لنهاية الدولة العراقية وسقوطها قبل أن تسقط، فالتلاعب بملفات الجنسية ينهي الدول، والدخول في حروب بلا دراسة وتفكير هو الآخر يسقط أنظمة، كما أن العنصرية تجاه مكونات أساسية من الشعب والمجتمع تنهي كيانات وتؤسس لكيانات بديلة. حتما لم يقصد صدام كل هذا، لكن معظم القادة العرب قلما يقرأون وقلما يتمعنون في التاريخ، لهذا يصبح العرب بسبب هذا النمط من القيادة ضحايا مخططات الغرب وإسرائيل وإيران وكل فاعل لاعب في عالمهم. قادة كهؤلاء يصبحون موضوعاً للتاريخ بدل أن يكونوا بين صانعيه.
اللافت في العراق أن العراقيين الشيعة الذين أسقط صدام عنهم حق المواطنة وأرسلهم إلى إيران عادوا بعد سقوط نظامه واستعادوا جنسيتهم العراقية بعد أن أمضوا أكثر من ٢٠ عاماً في أيران. هذه الفئة التي أصبحت جزءاً من الدولة وتبوأت مواقع حكومية حملت معها تجربتها الإيرانية إلى العراق الجديد بعد عام ٢٠٠٣. هذه دروس للعالم العربي، الذي يستسهل القرارات المتسرعة والذي قلما يخضع قرارته، بسبب ضعف المساءلة، لقواعد أخلاقية أو دستورية أو سياسية.
في الحرب العراقية- الإيرانية خسر العراق كل احتياطه المالي، ويكفي أنه خرج مديوناً من تلك الحرب بعشرات البلايين. لهذا السبب ومن أجل أن ينقذ نفسه، قرر غزو الكويت من دون وجود أدنى مبرر لعمل متهور كهذا. لقد مثل الغزو العراقي استمراراً لحربه الأولى ولعقليته تجاه الشعب والناس والجيران. لقد تحول غزو العراق للكويت إلى كارثة على الكويت، لكنه تحول أيضاً إلى كارثة على العراق. ثمن ذلك الغزو كان كبيراً على العراق الذي وضع تحت بنود العقوبات الدولية لفترة ستستمر لأكثر من عقد.
لكن خروج الولايات المتحدة منتصرة من الحرب الباردة عام ١٩٨٩، فرض عليها ضغوطاً جديدة. فقد سعت بعد نهاية الحرب العراقية- الإيرانية عام ١٩٨٨ إلى ترجمة ذلك الانتصار في منطقة الخليج. أصبح الهدف الأميركي وضع اليد من خلال التحالفات على أهم وأغنى منطقة في العالم، وذلك من خلال استغلال أخطاء كل من إيران والعراق. بالنسبة إلى الولايات المتحدة مثّل احتلال صدام للكويت فرصة كبيرة لها للتحرك والحد من دور دول كبرى أخرى قد تنافسها. لقد أوقعت سياسات الرئيس العراقي الإقليم كله في فخ مدروس.
بعد عقد من العقوبات على العراق وقعت هجمات 11 سبتمبر ٢٠٠١. من خلال رد الفعل على هذه الأحداث قررت الولايات المتحدة شن الحرب على كل من أفغانستان والعراق معتقدة أن الحرب ستنهي كل معارضة لها في العالم كما في الإقليم العربي. فقد اعتقدت أميركا أنها قادرة على السيطرة على العراق وتحويله إلى نظام ديموقراطي كاليابان، وأنها قادرة على تمويل الحرب ضد العراق من خلال النفط العراقي. بل استندت إلى فرضية مفادها أن الشعب العراقي سيستقبل القوات الأميركية بصفتها قوات تحرير. كل هذه الأبعاد سقطت في حرب الولايات المتحدة في العراق. كما أنها لم تجد أسلحة الدمار الشامل التي أعلنت أنها تشن الحرب بسببها.
الولايات المتحدة التي احتلت العراق عام ٢٠٠٣ لم تستوعب تركيبة المجتمع العراقي المنقسم بسبب طبيعة نظامه وتاريخه، كما أن الولايات المتحدة لم تأخذ في الاعتبار إيران ودورها المتغير من جراء إسقاط صدام، كما أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في مسألة الديموقراطية، والأخطر أنه لم يكن لدى الولايات المتحدة أي تفكير جاد حول الدولة العراقية ومستقبلها. فكل ما قامت به أنها حلت الدولة العراقية وأجهزتها من جيش وقوى أمن، بل فاجأت المعارضة بإعلان وضع العراق تحت سلطة احتلال.
وفق الكثير من المصادر كان هناك تيار أساسي في النظام العراقي يستعد لعقد صفقة مع الولايات المتحدة من أجل شكل من أشكال الانتقال. لكن القرار الأميركي بحل ما تبقى من الدولة العراقية ثم قرار اجتثاث البعث أنهى تلك الآمال. لقد انتهى الأمر في العراق إلى فوضى وحرب طويلة شنها العراقيون ضد الاحتلال بعد ٢٠٠٣، واستمرت الحرب إلى يوم خروج الولايات المتحدة من العراق في أواخر ٢٠١١.
لقد تعلمت إيران الدرس من غزو الولايات المتحدة للعراق، فهي تنطلق من أن عدم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل (بل تجريده منها قبل الغزو عام ٢٠٠٣) ساهم في احتلاله، ومن هنا مدى التزام إيران بتطوير برنامجها النووي. من جهة أخرى يؤكد الدرس الكوري أن امتلاك أسلحة نووية يمنع غزواً شاملاً.
لقد استمرت الحرب بين العراقيين بعد غزو الولايات المتحدة للعراق في ظل الصراع بين اتجاهات عراقية موالية لإيران وقواعد أخرى هامة من المجتمع العراقي تريد حماية حقوقها والمحافظة على استقلال العراق، وانعكس ذلك على الصراع بين قوى عراقية شيعية وأخرى سنّية وثالثة كردية. في هذا الإطار برز تنظيم «داعش» بكل تطرفه، وفي الإطار ذاته سعى الأكراد إلى حماية مكتسباتهم وبناء مناطقهم باستقلالية عن بغداد. حتى اليوم وصل قتلى العراق ومعظمهم من المدنيين إلى ما يقارب ٨٠٠ ألف بينما لا يوجد من يحصي الجرحى، أما قتلى الجيش الأميركي فوصل عددهم في فترة الصراع المباشر إلى ٤٥٠٠ بينما تجاوز عدد الجرحى ٣١ ألفاً.
القصة العراقية هي ذاتها تتكرر، وإن اختلفت العناوين والتفاصيل في ليبيا وسورية واليمن، والسودان. إن الدرس الأهم من قصة صدام حسين وصولاً إلى سقوط بغداد أننا في إقليم عربي قلما يبني مؤسسات فاعلة وقلما ينتج قادة تحد من قراراتهم المتسرعة قيود المساءلة والمؤسسات الفاعلة. في النهاية تفتح الدكتاتورية، خصوصاً في صورتها الفجة، الطريق إلى الاستعمار وزحف القوى الأجنبية على بلادنا.
المصدر : الحياة