لا تعتبر الإصابة المبدئية بسرطان الثدي، والتي قد تتمثل في تورمات بالثدي قاتلة، فعلى العكس، إن تمّ التشخيص المبكر للمرض يتم علاجه، لكن يكمُن الخطر في عدم اكتشاف الإصابة المبكِّرة للمرض، ومن ثمّ انتشاره في مجرى الدم، ومنه إلى باقي أجزاء الجسم مسببًا الوفاة. فوفقًا لمعهد أبحاث السرطان بالمملكة المتحدة يُعتبر سرطان الثدي أكثر أنواع السرطان انتشارًا في بريطانيا، حيث يتم تشخيص حالة إصابة بسرطان الثدي من بين كل ثماني نساء، على الرغم من انخفاض نسبة الإصابة بالمرض بحوالي 35% منذ بدايات عام 1970. أما حاليًا فتتمركز أعلى معدلات الوفيات بسرطان الثدي في غرب أفريقيا، وتتمركز أقلها في دول شرق آسيا.
سرطان الثدي.. الخطر الأكبر
يعتبر سرطان الثدي خامس أكثر أنواع السرطانات شيوعًا بشكلٍ عام، وثالث أكثر أنواع السرطانات المسببة للوفاة عالميًّا، مؤديًا إلى 522 ألف حالة وفاة في عام 2012. لذلك هو أكثر أنواع السرطانات المسببة للوفاة بين النساء في جميع أنحاء العالم، فيحتل المركز الأول بين نساء الدول النامية مثل كامبوديا، ونيبال، ورواندا. والمركز الثاني -بعد سرطان الرئة- بين نساء الدول المتقدمة، مسببًا ما يزيد عن 11 ألف حالة وفاة لعام 2014 في المملكة المتحدة فقط.
الكثير منا لا يدرك مدى خطورة سرطان الثدي، وقد لا يعتقد بأن تلك الأرقام حقيقة بالفعل. لكن للأسف المرض في غاية الخطورة. لذا قام العُلماء في المركز الألماني لأبحاث السرطان بـهايدلبرغ، وبقيادة العُلماء في مركز «سرطان الثدي الآن» بمعهد أبحاث السرطان في لندن بدراسة تُمثل خطوة مهمة جدًّا في فهم كيفية انتشار سرطان الثدي إلى أعضاء الجسم المختلفة عبر مجرى الدم. مما يعني إمكانية السيطرة على المرض في المستقبل القريب بطرقٍ شتَّى، لذلك في هذا التقرير سوف نستعرض الدراسة المَعنية، وكيفية انتشار المرض إلى أعضاء الجسم المختلفة، وكيف سيؤدي هذا البحث إلى السيطرة على المرض.
ما الذي توصلت إليه الدراسة؟
تُحاط الخلايا المُبطنة للأوعية والشعيرات الدموية في جميع أنحاء الجسم بخلايا قابلة للانقباض تُسمي بـ«Pericytes»، بينما أكتشف العُلماء أن هذه الخلايا غير السرطانية والقابلة للانقباض تلتف حول الأوعية الدموية، فتساعد خلايا سرطان الثدي بالدخول إلى مجرى الدم، ومن ثم انتشارها في جميع أجزاء الجسم. وذلك عن طريق إنتاج جزيء بروتين رئيسي يسمى بـالـ«إندوسيالين- Endosialin» يُرمز له بالكود «CD248». لذلك وبعد المرحلة المبدئية للمرض، وعندما يبدأ في الانتشار من الثدي إلى أي جزء آخر من أعضاء الجسم يُسمى حينها بـ«سرطان الثدي الثانوي»، ويصبح غير قابل للعلاج أو الشفاء؛ مما يؤدي إلى معدلات الوفيات الضخمة التي تم ذكرها سابقًا.
دراسات سريرية.. وتجارب معملية.. وآلية غير معروفة
الـ«Pericytes» عبارة عن خلايا كبيرة شبيهة بالعنكبوت، تُحيط بالأوعية الدموية من الخارج، وتعتبر مهمتها الأساسية هي دعم نمو الأوعية الدموية وتعزيز وظائفها. لكن اكتشف العُلماء دور مهم جدًّا لتلك الخلايا، وفقًا للدراسة التي نشرت في 15 سبتمبر (أيلول) الحالي في مجلة أبحاث السرطان. حيث تقوم خلايا الـ«Pericytes» بإنتاج بروتين الـ«إندوسيالين- Endosialin» الذي يلعب دورًا رئيسيًّا في انتشار سرطان الثدي إلى أجزاء الجسم الأخرى.
تحتاج أورام الثدي إلى إمدادات الدم الذي يحمل الأكسجين والمواد المغذية حتى تستطيع النمو. لذلك تتطلع الخلايا السرطانية إلى جذب نمو الأوعية الدموية القريبة، لأن تلك الأوعية هي طريقها الأوحد للهروب إلى بقية أجزاء الجسم؛ فضلًا عن كونها المصدر الرئيسي لإمداد الأورام بالأكسجين والغذاء.
لكن الآلية التي تساعد تلك الأورام على الانتشار لم تكن واضحة حتى قيام العُلماء بقيادة «كلير إيزاك»، البروفيسور في مركز أبحاث سرطان الثدي بلندن، والبروفيسور بالمركز الألماني لأبحاث السرطان «هلموت أوغسطين»، بالعديد من الدراسات على الفئران، والخلايا المزروعة في المختبر، وكذلك العينات التي تبرع بها مرضى سرطان الثدي. حيث قاموا بمقارنة خلايا الـ«Pericytes» المُنتجة لبروتين الـ«إندوسيالين» مع الخلايا التي لا تستطيع إنتاج الإندوسيالين، والتحقيق في كيفية تأثير تلك الخلايا في انتشار سرطان الثدي.
الإندوسيالين.. وغزو الأوعية الدموية
التجارب على الفئران أكدت أن نقص جزيئات الإندوسيالين تمنع خلايا سرطان الثدي من الدخول إلى الأوعية الدموية، وبالتالي عدم الانتقال إلى باقي أجزاء الجسم؛ مما دفع الباحثين إلى التجارب المعملية لفهم دور خلايا الـ«Pericytes»، ومدى ارتباط جزيئات الإندوسيالين في تسهيل دخول الأورام السرطانية إلى مجرى الدم.
فقام الباحثون بزراعة خلايا الـ«Pericytes» -في المختبر- مع الخلايا البِطَانية المُكونة للأوعية الدموية في طبقات، ذلك لزيادة الحاجز الواجب على خلايا السرطان عبوره؛ حتى تستطيع الدخول إلى مجرى الدم. حيث اكتشفوا أن القليل جدًّا من الخلايا السرطانية التي استطاعت عبور ذلك الحاجز عند عدم إفراز خلايا الـ«Pericytes» لجزيئات الإندوسيالين، وأن الإندوسيالين يعتبر شرطًا رئيسيًّا لدخول الخلايا السرطانية إلى الأوعية الدموية.
وللتحقق عبر التجارب السريرية، قسم العلماء 334 عينة من عينات المرضى المصابين بسرطان الثدي إلى نصفين، اعتمادًا على مستويات الإندوسيالين في كل منهم، حيث وجدوا أن النساء اللاتي لديهن مستويات أعلى من الإندوسيالين أكثر عرضة لدخول الأورام السرطانية إلى مجرى الدم وانتشارها إلى باقي أجزاء الجسم عن غيرهن اللاتي لديهن مستويات أقل من الإندوسيالين.
إذًا.. هل يمكن احتواء انتشار سرطان الثدي؟
على الرغم من كون البحث في مراحله المبكرة، إلا أن العلماء يعتقدون بإمكانية استغلال جزيء الإندوسيالين كهدف علاجي، وأن الأدوية التي تعمل على تثبيط أو منع وظيفته قد تكون مفيدة في السيطرة على انتشار سرطان الثدي. حيث يقول بروفيسور البيولوجيا الجزيئية بمعهد أبحاث السرطان «كلير ايزاك»، إن الخطوة التالية لفريقه سوف تتعمق في محاولة الكشف عن الآلية الدقيقة التي تبدأ بها خلايا الـ«Pericytes» في إنتاج الإندوسيالين، وكيف يساعد الإندوسيالين الخلايا السرطانية في الضغط على الأوعية الدموية، ومن ثم الدخول إلى مجرى الدم.
وبالتالي قام هذا البحث بتعريف الإندوسيالين كدليل بيولوجي محتمل في المستقبل، فمن خلال قياس مستوى الإندوسيالين في الخلايا غير السرطانية المحيطة بالورم السرطاني، يمكن التنبؤ بمدى خطورة السرطان، وإمكانية انتشاره إلى باقي أجزاء الجسم، وبالتالي تقديم العلاج المكثف لهؤلاء المرضى.
احتمالٌ مثير.. ودواء جديد محتمل
وفقًا لحديث الرئيس التنفيذي لمركز سرطان الثدي الآن، الممول الرئيسي لهذه الدراسة بمعهد أبحاث السرطان، «أن هذا الاكتشاف يمهد الطريق لإجراء المزيد من الأبحاث التي سوف تساعد في منع واحتواء انتشار مرض سرطان الثدي»، وتابع حديثه قائلًا: «نحن نأمل أن يقودنا هذا الفهم الأساسي إلى طرق أخرى جديدة لتحديد المرضى الأكثر عرضة لانتشار المرض، اللاتي يمكننا تقديم علاج أكثر كثافة لهن». كما أضاف: «أن هناك احتمالًا مثيرًا لإمكانية استخدام عقاقير تستهدف الإندوسيالين لمنع حدوث المرحلة الثانوية من سرطان الثدي، والتي تؤدي إلى فقدان 11.500 من نساء المملكة المتحدة حياتهن كل عام».