نستخدم الكثير من الأدوات والأجهزة في الحياة اليومية، مثل: النظارات الشمسية التي تحجب عنا وهج الأشعة الضارة، أو العلب البلاستيكية التي نحفظ داخلها الأطعمة، أو الأجهزة والاسطوانات المدمجة، والتي يتعين عليها أن تخضع لاختبارات شاقة لضمان عدم انكسارها أو تسريبها.
كذلك لم نكن نستطيع منذ سنوات قليلة، أن نشاهد أفلام السينما ثلاثية الأبعاد؛ إلا أنه بعد اختراع النظارات ثلاثية الأبعاد، صار ذلك متاحًا. أصبحت كل هذه الابتكارات الجديدة ممكنة بفضل جهود علماء الفيزياء في مجال البصريات؛ فبدون الضوء لم نكن لنرى كل هذه الاختراعات.
اكتشاف فيزيائي جديد يحمل تطبيقات تكنولوجية ثورية
إلا أنه من الممكن أن نكون على أعتاب ثورة تكنولوجية جديدة. فقد نجح علماء فيزياء بجامعتي موسكو وتوياهاشي في تقليل سرعة الضوء المستقطب بمقدار 10 مرات، وفقًا للدراسة التي نشرتها دورية «Physical Review Applied»،وأن تغيير سرعة الضوء بهذا الشكل يفتح آفاقًا جديدة للكثير من التطبيقات المبتكرة.
وتكشف الدراسة أن تغيير سرعة استقطاب الضوء إلى هذا المقدار من شأنه أن يساعد على إنشاء جيل جديد من الحواسيب الضوئية، والحواسيب العملاقة، وشبكات حاسوبية جديدة فائقة السرعة، وشاشات العرض.
ومن المعروف أن سرعة الضوء تبلغ في الفراغ 300 ألف كيلومتر في الثانية، وهذا يعني بشكل آخر أن الضوء يمكن أن يدور حول الكرة الأرضية سبع مرات كاملة في ثانية واحدة.
إلا أن الضوء يغير سرعته عند مروره خلال مواد مختلفة، مثل الزجاج والماء؛ فتنخفض سرعته في الماء بمقدار 75%، وتنخفض كذلك عند مروره في وسط مغناطيسي، وهو ما لاحظه باحثو الدراسة، وعملوا على تطويره خلال 15 سنة الماضية.
وأشعة الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية ذات خصائص كهربية ومغناطيسية، يتعامد فيها المجال الكهربي على المغناطيسي، ولكن عندما تمر موجات الضوء أو الإشعاع خلال بلورات ذات خواص مغناطيسية خاصة؛ تمنع مرور المجال المغناطيسي، وتسمح بمرور المجال الكهربي في اتجاه واحد، إما عمودي أو أفقي، وهو من الصعب للغاية على العين البشرية أن ترصده.
ويعتبر ضوء الشمس، وبعض مصابيح الإضاءة المختلفة مصدرًا للضوء غير المستقطب، فيما يعتبر الليزر أشهر الأمثلة شيوعًا على الضوء المستقطب.
تخزين معلومات بحجم الذرات والحماية من التجسس
واستخدم العلماء في الدراسة «بلورات فوتونية مغناطيسية»، ذات تركيب خاص، يقلل سرعة الضوء عند تمريره من خلالها؛ فتتغير سرعته وعدد من خواصه عما كانت عليه في الهواء.
وكان «ميزوتيرو إينوي»، عالم الفيزياء الياباني، وأحد الباحثين بالدراسة، أول من اقترح استخدام هذه الكريستالات في عام 1998 للحد من سرعة الضوء، وهي خاصية ضرورية لإنشاء الذاكرة الضوئية ثلاثية الأبعاد، والشاشات ثلاثية الأبعاد، وأجهزة استشعار المجال المغناطيسي.
ولاحظ إينوي تلاشي الضوء المنبعث أو اختفائه بعد مروره خلال منشور خاص ينقل حزمة واحدة فقط من الضوء المستقطب عندما يمر الضوء عبر مغناطيس، أي أن استقطاب الضوء يتغير عند وجود مادة ممغنطة.
واستغل الباحثون هذه الظاهرة لتقليل معدل دوران استقطاب الضوء بسرعة لعشر أضعافه؛ حتى يمكن ملاحظة التغييرات ورؤيتها بسرعة نبضة ليزر بالغة القصر تصل إلى نحو 200 فمتوثانية، أي 200 جزء من مليون من نانو ثانية.
ويُمكن لهذا الاكتشاف الجديد، أن يسمح بتخزين المعلومات في مساحات أصغر بحجم الذرات، إلى جانب تأمين الاتصالات والحماية من التجسس.
أبحاث لجيل جديد من الحواسيب العملاقة
ويعود السبب الذي يجعل ظاهرة الاستقطاب مهمة، إلى أنه يمكن لشعاعين متطابقين أن يتفاعلا بشكل مختلف مع المادة، وهي خاصية رئيسة في أنظمة الاستشعار عن بعد مثل: الرادار.
لذلك أجرى العلماء الكثير من الأبحاث للتحكم في سرعة الضوء وقياسه. ومنها ما يعتمد على إيقاف سرعة الضوءثم مواصلة سيره، لكن الأبحاث الحديثة تمكنت من جعله يحافظ على المرور بسرعة أكثر بطءً.
وكشفت دراسة نشرتها دورية «نيتشر»، في شهر مايو (أيار) الماضي،عن إمكانية إبطاء الضوء عن طريق جعله يستغرق مزيدًا من الوقت عند مروره من نقطة لأخرى، وهو يقوم في الحقيقة على تغيير مسار الضوء وليس سرعته بحيث يأخذ وقتًا أطول.
وتشير الدراسة إلى أن ذلك يمكن أن يحدث طفرة في عالم صناعة أجهزة الكمبيوتر البصرية، وأنظمة الاتصالات السلكية واللاسلكية.
صناعات ترفيهية وطبية تعتمد على الضوء
وغيرت هذه الظاهرة، الطريقة التي نستمتع فيها بالمشاهدة؛ فهي الخاصية الرئيسة في شاشات LCD، والأفلام ثلاثية الأبعاد.
وفي الواقع عندما نشاهد فيلمًا بتقنية ثلاثية الأبعاد؛ فنحن نشاهد فيلمين لا فيلم واحدًا. يُصور الفيلمان من موقعين مختلفين قليلًا بواسطة الكاميرا، وعند عرضهما يسلط كل من جهازي العرض الفيلمين من زاويتين مختلفتين على الشاشة. فعندما يضع كل مشاهد نظارته ثلاثية الأبعاد؛ تعمل مرشحات في عدسات النظارة ذات محاور استقطابية مختلفة على جعل الصورة المتحركة أكثر عمقًا.
وتعتبر ظاهرة الاستقطاب كذلك مهمة للغاية في التطبيقات الصيدلانية والصناعية وصناعة الكيمياويات والأغذية والمشروبات المختلفة. فعديد من مكونات المستحضرات الصيدلانية والغذائية مثل: السكر تحتوي على مواد تنشط بتأثير الضوء، وهو ما يساعد في عمليات الكشف والتعرف على هذه المواد.
بجانب تطبيقات تحليل مكونات العقاقير الطبية، وأجهزة الفحص المجهري، والعوازل، والألياف الضوئية،واختبارات القياس وجودة البلاستيك والزجاج بوضع أي منها بين ألواح استقطاب، وتمرير الضوء من خلالها للكشف. ويكشف الضوء الناتج عن الأماكن الضعيفة التي من المرجح أن تتعرض للكسر.
ونجد في الطبيعة عديد من الحيوانات تستخدم ظاهرة الاستقطاب لتحديد الاتجاهات. مثل: الأخطبوط، والحبار، والروبيان السرعوف،والحشرات، وخاصة النحل الذي يتواصل عن طريق رقصات خاصة يؤديها لنقل معلومات بخصوص موقع الغذاء وغيره. بينما تعمل الألوان الزاهية المتغيرة في جلد الحبار كوسيلة تواصل.
فما زال العلم يتعرف على عديد من الخواص الجديدة للضوء، ويكتشف ظواهر كونية يمكن أن تكون أكثر سرعة من الضوء. وربما اكتشف العلماء أن سرعة الضوء يمكن أن تكون مختلفة، وليست قيمة ثابتة.