أصبح الحل السوري حلاً إقليمياً ودولياً بامتياز؛ ففي سورية احتلالٌ روسيٌ، وهناك ائتلافٌ دوليٌ لمحاربة داعش، وإيران والمليشيات التابعة لها تقاتل في كل جبهات سورية. لم يكن الخلاف التركي الروسي فقط بسبب إسقاط الطائرة الروسية، بل ولأسبابٍ دوليةٍ ولاختلاف النظر إلى كل المسألة السورية، وكيفية تغيير نظام الحكم والمصالح في سورية، والموقف من المعارضة وسواها؛ وما صعد الخلاف أيضاً دعم روسيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومليشياته، وبروز مطامح دولتية لديه، وهو ما سيشجع كرد تركيا والآخرين، وكذلك دعم أميركا له.
ضمن هذه الوقائع، والتي تتطور ضد المصالح التركية، فإن أنقرة تريد إيقاف مسيرة التدهور في علاقاتها الإقليمية والدولية، ولذلك بدأت تحركاتٍ واسعة، فأعادت العلاقة مع إسرائيل، واعتذرت من روسيا، وهناك من يشتط بالتحليل قائلاً إنها تفكّر بإعادة العلاقات مع النظام السوري عبر وساطة الجزائر، وكذلك إعادة العلاقات مع مصر المحكومة بحكومة الانقلاب العسكري السيسية.
العلاقة الروسية التركية المستجدة هي الأهم، فهناك خطر كردي سوري في جنوب تركيا، وهناك عزلة دولية تقودها أميركا الداعمة للكرد، وهناك تدخل روسي داعم لكرد تركيا، والأسوأ الخسارات الكبيرة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وأيضاً تعقيد أوروبا شروط انضمام تركيا إليها، وفقدان الثقة المستمر.
إذاً هناك أسباب كثيرة دفعت تركيا للاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وإنهاء هذا الملف.
وروسيا التي تتوثق علاقاتها بإسرائيل يومياً، وتختلف مع إيران في إدارة المعارك، وعلى مستقبل النظام في سورية، تريد إعادة العلاقات مع تركيا، وهذا سيساعدها في إدارة ملف أوكرانيا وجزيرة القرم بشكل أفضل، وسيخفّف عنها العقوبات الأوروبية والأميركية، وسيُجبر إيران على التخفيف من سياساتها الهيمنية في سورية.
هنا، ستكون روسيا مجبرةً على أخذ المصالح الإسرائيلية والسعودية والتركية في إبعاد إيران من سورية، وتحديد أدوارها في كل المنطقة، ولا سيما أن أميركا، وعلى الرغم من دعمها الكرد والاتفاق النووي مع إيران، فإنها سترحب بالحلف الجديد، فهو سيسهل رؤيتها الجديدة للمنطقة، والمتمثل في إعطاء أدوارٍ للدول الإقليمية ولروسيا؛ عدا عن أن أميركا ستجد نفسها أمام حلفٍ جديدٍ، يساعدها في مواجهة الصين مستقبلاً، هذا يعني أن الدعم الأميركي للأكراد سيتراجع، يساعد في ذلك إسرائيل التي لن تخسر تركيا لتربح الأكراد، والتي تحتاج علاقات قوية مع تركيا لأسباب اقتصادية وللضغط على حركة حماس.
إذاً هناك ترتيبات جديدة تحدث في المنطقة، وسيشهد الوضع السوري حراكاً نحو إعادة العمل بالحل السياسي.
تركيا، وعكس التحليل المتسرع، أن النظام السوري سيعاد إنتاجه بتعزيز العلاقات التركية الروسية، فإن تركيا وروسيا تريدان تحقيق مصالحهما في سورية؛ فتركيا دعمت جيش الفتح في عام 2015 الذي تقدم كثيراً، وكاد أن يغيّر كل المعادلات ضد النظام، ثم جاء التدخل الروسي في سبتمبر/ أيلول 2016 فأوقف ذلك، وبدأ معارك واسعة في حلب، وكاد أن يقضي على المعارضة في كل الريف الشرقي لحلب، وكذلك استرجعت تدمر، وكان الحديث عن استعادة الرقة والتقدم نحوها.
وهنا وجدنا تركيا بلا وزنٍ حقيقي؛ فلا الأميركان يسمحون لها بمنطقة عازلة، ولا الروس يتقبلون دعمها الفصائل العسكرية في أكثر من منطقة؛ لكن روسيا لم تشن حرباً ضد جبهة النصرة في إدلب، وأبقت لتركيا على نفوذ معين ضمن الفصائل. وبالتالي، تبين وبالملموس أن روسيا لا تريد إنهاء وجود تركيا في سورية، وأن تركيا نفسها تعتبر وجودها في سورية مسألةً تتطلب تصالحاً مع روسيا، ولا سيما أن الأخيرة دخلت بتنسيق مع أميركا، وبموافقة أوروبية كذلك. وقد أرسلت تركيا، وبسبب كل الوضع الموضح، عدة رسائل لروسيا، حتى وصلنا إلى الخطوة الأخيرة.
ما نريد قوله إن المصالح التركية في سورية ستكون مجال توافق بين الدولتين، وكذلك مصالح الكرد ضمن التنسيق مع الأميركان، لكنها لن تكون وفق أحلام صالح مسلم بالتأكيد، فهناك رفض تركي إيراني سوري عربي، شديد الحساسية إزاء الموضوع؛ ونضيف إن التنسيق الإيراني الروسي ضعيف، وهناك خلافاتٌ تتصاعد، فقد فشل اجتماع وزراء الدفاع في طهران، وأتى وزير الدفاع الروسي إلى قاعدة حميميم، وأعطى تعليماتٍ واضحةً لدور روسيا في سورية.
سيجد التنسيق الإسرائيلي الروسي ظهيراً قوياً له في تركيا، وهذا يعني أن الخلاف سيزداد بخصوص النظام القادم في سورية، والذي، وإن لم يكن كما تشاء المعارضة بإبعاد الرئيس السوري والصف الأول من النظام وتسليم هيئة تنفيذية كاملة الصلاحيات من المعارضة ورجالات من النظام، لكنها أيضاً ستأخذ مصالح معارضة الرياض بالتحديد في أي حلٍّ سياسيٍّ يمكن الوصول إليه عبر جنيف أو سواها.
يساعد التقارب الجديد في إيقاف إطلاق النار، وسيعزّز من تطبيق هدنة برعاية روسية أميركية، وسيطرح قضية جبهة النصرة وداعش جدياً للتصفية، وحتى بما يخص “داعش” ستتم محاصرته بشكلٍ أوسع. طبعاً موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) سيطرح في إطار التحجيم، وستتغير تركيبة قوات سورية الديمقراطية، أي ستكون أغلبيتها عربية؛ فحساسية العرب من قيادة الكرد لها، ولا سيما كلامهم أنهم سيضمون الرقة إلى فيدراليتهم، أكثر من واضحة، وكذلك موضوع الربط بين عفرين وكوباني.
القصد هنا أن التوافق الإقليمي، وعكس رؤية جماعة الممانعة وبعض تياراتٍ من المعارضة، لن يكون لتحقيق مصالح روسيا، وتعزيز دور النظام وإيران ومليشياتها. ونضيف إن الحلف الجديد سيطرح قضية الحل السياسي، وإيقاف التدهور في الوضع الإقليمي، وربما يساهم في حل مسألة اليمن والعراق وليبيا أيضاً. تركيا وروسيا دول كبرى ولها مطامح عظمى. ومن دون الانطلاق في التحليل من هذه الحيثية، سيفشل كل تحليل في قراءة الحلف الجديد.
السوريون معنيون في إدراك أهمية المتغير الجديد، والتخلص من كل بعد طائفي أو قومي في رؤيتهم للصراع السياسي، وإنهاء كل موقفٍ متعاطفٍ مع الجماعات الجهادية، وإجبار السلفيين على موقف وطني إزاء الحكم المستقبلي والدولة القادمة؛ ومعنيون برفض كل المشاريع الدولية والإقليمية التي لا تخدم تأسيس دولةٍ لكل السوريين.
هذا ما يجب أن تعمل له كل تيارات المعارضة ومن دون استثناء، وهو ما يجب أن يفكر فيه الموالون كذلك، والبحث عن مشتركاتٍ شعبية ووطنية عامة، تتجاوز خنادق المعارضة وصقورها الذين يدجّنون في أقفاص الدول الإقليمية.
المصدر : العربي الجديد