في إنكارها تقرير «أمنيستي» (منظمة العفو الدولية)، المتعلق بإعدام نحو 13 ألف معتقل بين 2011 و2015، تقول وزارة «عدل» نظام بشار ما مفاده: لو كان الأمر هكذا من أين أتى أولئك الناجون ليدلوا بشهاداتهم؟ المنطق الذي تستخدمه الوزارة هو التالي: طالما هناك ناجون إذاً لم تكن هناك إبادة، فإما أن الإبادة كذبة أو أن الناجين هم الكذبة، بوجودهم أو بأقوالهم.
على أية حال، لا يضيف تقرير «أمنيستي» سوى بعض التفاصيل لمن خبروا مسالخ الأسد البشرية، منذ عهد الأب وصولاً إلى الابن، وهي مسالخ لم يسلم منها فلسطينيون ولبنانيون أيضاً. وكان التقرير مناسبة على وسائل التواصل الاجتماعي لاسترجاع روايات وخبرات شخصية لا تقل هولاً، منها قيام أطباء وممرضات بالإجهاز على معتقلين تدهورت حالتهم الصحية في فروع المخابرات، وأُحيلوا إلى المشافي في بدء الثورة، بل قيام ممرضات بضرب المصابين تحديداً على أماكن الوجع ما كان يدفعهم إلى ادّعاء المرض في الأعضاء السليمة!
الفائدة المتوخاة من التقرير كانت لتأتي من وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لكن كما نعلم لم يتعاطَ المجتمع الدولي كما ينبغي مع توثيق 11 ألف معتقل قُتلوا تحت التعذيب، فيما عُرف بملف سيزار، على رغم الإقرار بصلاحية الوثائق من قبل مكاتب حقوقية دولية مشهود لها. وكان الكونغرس الأميركي قد استمع إلى شــهادة ســـيزار مباشرة في عهد الرئيــس الســابق أوباما، أي قبل مجيء ترامب الذي عندما ووجه قبل أيام بتقديره بوتين «القاتل» أجاب بأن هناك الكثير من القتلة، أي أننا انتقلنا من رئيس يدّعي عدم القدرة على الفعل في غياب قرار دولي إلى آخر يرى القتل من طبيعة العيش.
يذكّرنا هذا الواقع بمتذاكين أخذوا يلومون الضحايا السوريين على مقتلهم، طالما أن العالم لا يكترث بهم، ويعدّون ذلك سذاجة سورية خالصة. لكن قاطفي هذه الخلاصة السهلة يتناسون تدخل المجتمع الدولي في أماكن عدة، وإنشاء محاكم خاصة بجرائم ضد الإنسانية في يوغوسلافيا السابقة وفي السودان، ينضوي في السياق نفسه تدخل العالم للجم حكام تل أبيب عن المضي في عدوانهم على الفلسطينيين في العديد من المناسبات، وأيضاً الرأي العام الغربي الذي شهد تحولاً واضحاً لمصلحة القضية الفلسطينية، على رغم مكانة إسرائيل لديه.
هذا بالطبع لا ينفي تغيراً في المزاج الغربي، ربما لم يكن ليصبح واضحاً إلا بالموقف المتخاذل من المقتلة السورية. وكما هو معلوم يتعين التغير في تقدم النزعات الانعزالية لدى اليمين واليسار، كلّ منهما لأسبابه ووفق أيديولوجيته، وتراجع أنصار العولمة والعالمية معاً. هي موجة معكوسة عن تلك التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، واضطلاع الغرب إثرها بدور أكثر توازناً على خلفية انتصاره واستفراده بقيادة العالم. ضمن هذا المناخ الغربي، هناك ميل واضح إلى عدم التدخل في الشأن السوري، يتمثّل إعلامياً في حالة تجاهل، وأحياناً إنكار، ما يرتكبه نظام بشار من مجازر. في حالات أخرى هناك إقرار بوحشية النظام، مع المفاضلة بينه وبين داعش لمصلحة الأول بما أن أذاه يقتصر على السوريين. وباستثناء منابر غربية قليلة حافظت على موقف مؤيد للثورة، يمكن القول بأن المنابر الأخرى بدأت تغذّي حالة التجاهل أو الإنكار لدى متابعيها.
المفارقة كانت طوال سنوات أنه بقدر ما أمعن النظام في وحشيته تفاقمت حالة التجاهل أو الإنكار في الغرب، هذه هي الهدية التي لم تخطر في بال قادة النظام، لكنهم أدركوا فائدتها وراحوا يستغلونها. المسألة تتعلق بجعل كافة الانتهاكات غير قابلة للتصديق، وفي غياب العدالة الدولية ستبدو جميع الانتهاكات بمثابة روايات تفتقر إلى الصدقية.
في مثال تقرير «أمنيستي»، يبدو الكثير من الوقائع غير قابل للتصديق حتى من سوريين لم تصل مخيلتهم إلى ملامسة الواقع الإجرامي، ومن المفارقة أن الأقرب إلى التصديق في الغرب ربما أولئك الذين يرون في الشرق مرتعاً لوحوش قادرة على فعل أي شيء خارج العقل والإنسانية، والغالبية منهم قد تشاطر ترامب وأمثاله وجهة نظر ترك الشرق لصراع وحوشه.
تأتي أهمية تقرير «أمنيستي» من أنها منظمة موثوقة دولياً، ذلك لا يمنحها صدقية تلقائية وفق المعطيات السابقة، فالرهان الإعلامي مع الأسف تدنى إلى مستوى إقناع العالم بأن الناجين من المسلخ ليسوا كذبة، وأن العلة هي في إنسانية لا تصدّق وجود بربرية على هذا النحو إلى جوارها، إذا حكّمنا حسن الظن. لقد فهم نظام بشار أن تصعيد وحشيته لن يجعل الغرب أكثر حساسية أو حماساً إزاء الضحايا، حدث هذا على الأرجح منذ صفقة الكيماوي، ومنذ ذلك الحين تفاعلت الطبقة السياسية الغربية في شكل مدهش مع التصعيد، فقابلته نسبة كبيرة منها بالتراجع عن المواقف المنادية بتنحي بشار، وصولاً إلى تلك التي لا ترى عيباً في التعاون معه.
بالطبع، ستكون هذه وصفة سحرية لتعزيز اليأس، بوجود اعتراف من منظمات دولية ذات صدقية بارتكاب النظام جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من دون بناء مواقف دولية عليه، ومن دون أي تحرك شعبي مرموق على مستوى الحدث، وليكن مثلاً تحركاً على غرار المظاهرات الغربية التي نددت بالعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. وسيكون مثيراً للاشمئزاز ذلك الاستعجال الذي يبديه ديميستورا لعقد محادثات جنيف التي تكرس المجرمين شركاء، بينما يكتفي الأمين العام للأمم المتحدة بإبداء شعوره بالرعب إزاء التقرير، وإخفاء عجزه عن أي فعل آخر.
لا إهانة توازي إنكار معاناة البشر أو تجاهلها، هي إهانة يليق بها أولاً أقسى أنواع الغضب. لكن نخطئ إذ نربط تلقائياً بين شعور إنساني محقّ هو الغضب، والذهاب بناء عليه إلى سلوك عدمي هو الإرهاب، فهذا الربط إذا كان يؤرق الغرب مرة فهو يسرّ خاطر بشار وداعميه عشرات المرات. في معركة سياسية طويلة، لا يجوز إغفال العقلانية ولا المواظبة على قرع الأبواب الموصدة. تقرير «أمنيستي» وأمثاله قد لا تعِد بالجدوى سريعاً، البناء عليها واستثمارها مهمة شاقة، البديل هو الاستهانة بها واعتبار هذه المنظمات جزءاً من منظومة متواطئة. أليس هذا ما يقوله نظام بشار أيضاً؟
المصدر : الحياة