انتهت مفاوضات جنيف 5 مثلما انتهت سابقاتها، أي من دون أي تقدم في المباحثات على أي سلة من السلال التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا (الحكم الانتقالي، الدستور، الانتخابات، مكافحة الإرهاب)، ومن دون أي نتيجة تستحق الذكر على كل الأصعدة، وبديهي من دون تمكين أي من الطرفين المتصارعين الادعاء بتحقيق مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر.
واضح من ذلك أن هذه المفاوضات إن استمرت على هذا النحو ستصبح عبارة عن مجرد مفاوضات علاقات عامة ولتقطيع الوقت، وتبرئة ذمة المجتمع الدولي من المسؤولية عن الكارثة السورية ومآسي السوريين؛ تماماً مثلما حصل في تجربة الفلسطينيين في مفاوضات أوسلو (1993) مع الإسرائيليين، التي بات لها قرابة ربع قرن، وكأننا إزاء مفاوضات عبثية أخرى.
المسألة الأساسية التي يجب إدراكها والتركيز عليها أن المفاوضات في شأن مستقبل سوريا لا تجري، في حقيقة الأمر، بين الطرفين اللذين يجلسان على طاولة المفاوضات (النظام والمعارضة)، وهما لم يفعلاها أصلاً إلا في جلسات بروتوكولية أو افتتاحية، وذلك بسبب أن الأطراف الدولية والإقليمية باتت هي التي تتحكم بالصراع السوري، في القتال والهدن، في التسوية والصراع المسلح، في تقرير استمرار الصراع أو فرض الانتقال السياسي؛ هذا أولاً.
ثانياً، أن الطرفين المتصارعين لا يستطيع أي واحد منهما التغلب على الآخر، أو فرض الحل الذي يريده، إذ لم يبق للنظام الذي تآكلت قواه، ما يستطيعه في سبيل ذلك، سيما بعد أن بات واضحا أنه أضحى مرتهنا للطرفين الروسي والإيراني. في المقابل فإن المعارضة لم تستطع أن تراكم من القوى ما يسمح لها بإسقاط النظام، وإنهاء الصراع لصالحها، فلا أوضاعها تمكنها، ولا إمكانياتها تتيح لها ذلك، على نحو ما شهدنا من تطورات عسكرية في الفترة الماضية.
ثالثاً، كل ذلك يفيد بأن كلمة السر بشأن وقف الصراع الدامي في سوريا لم تصدر بعد، من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، وإن هذه القوى لم تصل حتى الآن، إلى القناعة بإمكان إنفاذ مصالحها أو إقناع الأطراف الأخرى بأخذ مصالحها في عين الاعتبار.
في هذا الإطار يمكن استعراض وضعية القوى الفاعلة في الصراع السوري، أي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة (مع غياب النظام العربي أو تشتت مواقفه). ففي ما يتعلق بإيران فهي باتت تشعر أن وجودها في سوريا بات مهدداً سيما بعد دخول روسيا وتركيا على الخط، خاصة من جهة روسيا التي تعتقد أنها هي صاحبة الكلمة الأولى في سوريا، مع اعتقادها أيضا بأنها هي التي أنقذت النظام من الانهيار وليس إيران. هذا الوضع لا يناسب السياسات الإيرانية في المنطقة، ومع كل الأثمان التي دفعتها هذه الدولة التي تمتلك الحجم الأكبر من القوى الخارجية في سوريا، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، ومع كل الدعم المادي الذي أغدقت به على النظام.
تركيا تعتقد أن أي بحث في صيغة لسوريا المستقبل ينبغي أن يأخذ في الاعتبار مصالحها كدولة جوار واعتباراتها الأمنية، وبالأخص منها الحؤول دون قيام منطقة حكم ذاتي كردية في الشمال السوري، تحديدا في غرب الفرات، وهذا ما حاولته بإطلاقها عملية درع الفرات، أواخر الشهر الماضي، وما تحاوله من خلال ضغوطها للمشاركة في معركة إخراج داعش من الرقة.
روسيا غير متيقنة بعد ما إذا كانت مصالحها في سوريا باتت مترسخة وتلقى قبولاً من المجتمع الدولي، مع وجود منافستها القوية إيران، ثم الولايات المتحدة التي تبعث رسائل غامضة، توحي أحيانا بأنها تستدرج روسيا للمزيد من التورط في سوريا وتركها لتتدبر أمرها وحدها، في حين توحي أحيانا أخرى أنها تأخذ مصالحها بالاعتبار وأنها توكلها في إدارة الملف السوري.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تملك كلمة السر لوقف الصراع الجاري في سوريا، وأنها الدولة الأكثر قدرة على فرض الحل الذي تريده على مختلف الأطراف الداخليين والخارجيين، وهي الدولة التي تملك إمكانيات استثمار هذا الصراع بل وتوزيع هامش تدخّل الأطراف الآخرين، أو حصصهم من النفوذ، من مدخل الصراع أو التسوية السوريين.
بيد أن المشكلة أن الولايات المتحدة مازالت لم تحسم أمرها في هذا الأمر، وأنها غير مستعدة على ما يبدو للدخول في مساومات مع الأطراف الآخرين، ولا سيما مع روسيا بخصوص العديد من الملفات. يخشى على ضوء ذلك أننا سنشهد لاحقا جنيف 6 و7 و8 الخ وذلك بانتظار كلمة السر الأميركية.
المصدر : العرب