معاناة العرب مع العنصرية بكل أشكالها قديمة قدم التاريخ، تختفي تارة وتعود تارة أخرى، لتخيم على أجوائنا فتسممها وتشعل نيران الفتن. فهي تنبع من الداخل: من العادات والتقاليد والتربية الخاطئة والجهل والتعالي وأوهام التفوق والتعصب لدين، عشيرة أو عائلة، حزب أو شخص.
ففي كل أدبياتنا، خصوصاً في القصائد، أشعار تثير نعرات ومواقف عنصرية، من بينها ما اشتهر به المتنبي عندما ذمّ كافور الأخشيدي، حاكم مصر آنذاك، وقوله في ما يدخل اليوم تحت حكم القوانين الدولية: لا تشتري العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد.
وهناك الكثير من الأشعار والكتب والأمثال الشعبية التي نتداولها من دون أن نفقه معانيها ونرددها كالببغاوات، على رغم ما تتضمنه من قدح وذم بالآخر المختلف لوناً وثراءً أو نسباً وانتماءً. وكنا في الماضي نسمع أوصافاً مثل عميل وجاسوس ورجعي وإمبريالي وملحد، وصرنا نردد تهم الإرهابي والكافر والعلماني، فيما نشتكي من الاتجاهات العنصرية المتطرفة ضد العرب والمسلمين. وبكل أسف، فإن الأخلاق والمبادئ العامة يفترض أن تشجب هذه المواقف الرعناء، فهناك أشعار تحذر من التباهي، مثل قول الشاعر: لا تقل أصلي وفصلي أبداً، إنما أصل الفتى ما قد حصل.
إلا أن الكلمة الفصل هي لله عز وجل الذي لا يحب كل مختالٍ فخور، ويحدد لنا مبادئ المساواة والإنسانية بقوله في محكم تنزيله: «يا أيها الذين آمنوا، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ولا مجال هنا للإسهاب في تعداد مكارم ديننا الحنيف لأنني أشرت إليها رداً على ما سمعناه من مواقف عنصرية مستنكرة تظهر في الإعلام اللبناني وشارك فيها بعض الجهلة أو السخفاء الذين يظنون أنفسهم فوق البشر ويتعرضون لكرامة الناس ويعممون ليشملوا شعوباً بكاملها، كما جرى للإخوة السوريين أخيراً. وجاء آخر عار عنصري في ما بثته قناة «أو تي في» التابعة لحزب رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) وأوردت فيه إهانات للشاب السوري ورفض الزواج منه لأنه من غير culture وأقل مستوى من الفتيات المشاركات في الاستفتاء.
وما جرى ما هو إلا جانب من تيار عام يلصق التهم بهذا الشعب العريق، وسمعناه على لسان مسؤولين، بينهم وزير الخارجية جبران باسيل وغيره وبعض الإعلاميين الذين دأبوا على التحريض والتضليل بسرد السلبيات والتغاضي عن الإيجابيات والتركيز على تضخيم الأنباء عن أحداث وجرائم وسرقات توجه فيها السهام إلى السوريين الذين اضطروا إلى اللجوء هرباً من ويلات الحرب على رغم الظروف اللاإنسانية التي يعيشون فيها، مع أن الواجب يقتضي على كل إنسان أن يرحم عزيز قومٍ إن ذل مهما جرى لأنه صاحب فضل على الجميع، عبر التاريخ، وأولهم من اللبنانيين الذين لجأوا إلى سورية إبان الحروب والأزمات ووجدوا فيها الصدر الحنون والكرم وفرص العمل والتجارة.
ونسي المغرضون، أو تناسوا، حقائق تاريخية عن مستوى السوريين الحضاري في الداخل والخارج والإنجازات الكبرى التي حققوها على كل الأصعدة العلمية والثقافية والطبية والأدبية والإبداعية وكيف وصلوا إلى أعلى المناصب في الدول التي أقاموا فيها وكسبوا احترام الجميع. كما نسوا كم استثمر السوريون في لبنان وكيف أنقذوا الاقتصاد اللبناني من الانهيار في مناسبات كثيرة.
فموجات نزوح السوريين إلى لبنان حملت مئات الآلاف من رجال الأعمال والصناعة الذين أقاموا صروحاً صناعية وتجارية ومصرفية. كما أسهموا في بناء أجزاء كثيرة من بيروت والمدن الأخرى مثل رأس بيروت والحمرا والمنارة لتحقيق نهضة عمرانية كبرى شارك فيها عشرات الآلاف من العمال السوريين الذين جُبل كل مدماك فيها بدمائهم.
ولو أردت تعداد أسماء لشخصيات يعود أصلها إلى سورية الأم ولعبت دوراً تاريخياً في لبنان لما انتهيت، ولكنني أكتفي بالإشارة إلى رائدين راحلين عرفتهما شخصياً وكان لهما الفضل في تعليمي، وأقف لهما إجلالاً وأترحَّم عليهما وهما الدكتور إدمون رباط، واضع القانون الدستوري اللبناني وأصله من حلب الجريحة، والدكتور بطرس ديب، رئيس الجامعة اللبنانية وأصله من اللاذقية. كما أفتخر بأصدقاء أعزاء من رجال دين وبطاركة ومطارنة لعبوا دوراً بارزاً في تعزيز الوحدة الوطنية من دون أن ننسى أن مار مارون نفسه أصله سوري، ومثله مئات الآلاف من الموارنة والأشقاء المسيحيين.
وأذكّر المغرضين بصلة النسب والقرابة بين الشعبين وأن غالبية العائلات نصفها لبناني ونصفها الآخر سوري. وكنت قد جمعت إحصاءات عن عشرات الآلاف من الزيجات اللبنانية – السورية، وبينها لأسماء زعماء ورؤساء ونواب ورجال دين يردون على من تشدق بمزاعم التفوق. وأذكر بعض الأسماء، منها لرجل الاستقلال الرئيس رياض الصلح الذي تزوج من فائزة الجابري والرئيس صائب سلام من تميمة مردم بك، رحمهم الله، وتبعه الرئيس تمام سلام من ريما الدندشي والرئيس سعد الحريري المتزوج من لارا، كريمة الأخ بشير العظم. وعندما بدأت إعداد هذا المقال وجدت أن زميلي الأخ صقر أبو فخر قد سبقني بسرد أسماء أخرى من بينها الرئيس عبدالله اليافي من هند مؤيد العظم، الرئيس تقي الدين الصلح من فدوى البرازي، وليد جنبلاط من نورا الشرباتي، بشير الجميل من صولانج توتنجي، وغيرهم. والعكس بالعكس. ويشير الأخ صقر إلى أن الأب بولس نعمان من آل الأصفر الدمشقيين وأن البطريرك صفير من قرية الصفيرة في حوران.
يضاف إلى كل ذلك التضليل الإعلامي في شأن الأعباء الناجمة عن وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والذي تحول إلى مُسَلَّمة يتحدث عنها الجميع ويحذرون من الويل والثبور وعظائم الأمور من دون أن يتساءلوا عمن سمح لهم بالنزوح ومن أمّن إقامتهم ولماذا لم يعد عدد كبير منهم ما دامت الأمور قد حُسمت واستقرت في مناطق كثيرة. أما عن الأكلاف والأعباء، فالأرقام الرسمية توضح حقائقها في النقاط الآتية:
– إن بلايين الدولارات من الأموال دفعت للبنان من جانب الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها والدول والمنظمات الإنسانية وأنفقت لتحريك العجلة الاقتصادية، فذهب بعضها هدراً أو فساداً من دون حسيب ولا رقيب.
– إن المليون وأكثر من نصف المليون لاجئ ينفقون يومياً ملايين الدولارات تذهب جميعها لمصلحة التجار والصناعيين وأصحاب الأفران والمطاعم اللبنانيين.
– إن اليد العاملة السورية وفرت على المزارعين والصناعيين والتجار وحتى المستهلكين مئات الملايين بسبب رخص أجورها.
– آلاف السوريين أنقذوا الاقتصاد اللبناني من الركود بسبب الحروب والقطيعة مع دول الخليج عبر استثمار أموالهم في المتاجر والمصانع والمطاعم وغيرها.
– أكثر من مليون سوري وأجنبي بين دمشق وبيروت سافروا عبر مطار رفيق الحريري الدولي وأنفقوا مئات الملايين من الدولارات على ضرائب المطار (120 دولاراً على التذكرة) ومصاريف المواصلات والتبضع وشراء الحاجات.
– والأهم من ذلك كله أن الآلاف من الأثرياء وأبناء الطبقة المتوسطة أقاموا في لبنان واستثمروا مئات الآلاف على العقارات والمصاريف اليومية، إضافة إلى نحو سبعة بلايين دولار كودائع وضعت في المصارف اللبنانية خلال السنوات الخمس الماضية.
وكنت حذرت في كتابي «ربيع الدم والأمل» الصادر عن «دار الساقي» في العام 2014 من عواقب هذه الظواهر العنصرية التي ستولّد الأحقاد على مدى السنين وتتسبب في حساسيات يمكن ملاحظتها عند الحديث إلى أي سوري أو لبناني، وأوجز هنا بعض النقاط الواردة فيه، منها أن الشعب السوري لم يبخل يوماً تجاه أشقائه، وخصوصاً اللبنانيين، واقتسم معهم رغيف خبزه وأسكنه في بيوته بلا مِنَّة ولا مقابل ولا أذى. ومن غير المقبول أخلاقياً وإنسانياً أن نزيد من كرب هؤلاء الإخوة بشعارات الكراهية واتهامات باطلة وشعارات عنصرية والتعامل معهم على الحدود في شكل غير لائق.
كذلك فإن مسؤولية اللاجئين كبيرة بالبعد عن التطرّف والقيام بأي تصرف مسيء، وأن يحترموا القوانين والأعراف ويمتنعوا عن أي عمل يمكن أن يستغل ضدهم للترويج لإشاعات تسيء إليهم وتؤجج نار الكراهية.
ومع هذا، يجب أن نشيد بردود فعل اللبنانيين الشرفاء من رسميين ومواطنين وإعلاميين تصدوا للعنصرية واستنكروا ما يجري، وهو ما ينطبق على الإخوة العرب، والفلسطينيين خصوصاً، من مثل هذه النزعات البغيضة، مع واقعة تنطبق على الوضع الراهن نتذكر فيها كيف أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يحرص على ترداد شعار «شعب واحد في دولتين» كتأكيد الوحدة بين اللبنانيين والسوريين. وبعدما كان اللبنانيون يشتكون من الوجود العسكري السوري، صاروا يشتكون بعد انسحابه من الوجود الشعبي السوري ليتحول الشعار القديم إلى شعار يتناسب مع الواقع، وهو: «شعبان في دولة واحدة».
وأخيراً، لا بد من مسك الختام مع المطربة الرائعة فيروز، القاسم المشترك الأحب بين الشعبين، للتذكير بإنشادها عن حب سورية في «سائليني يا شام» و «شام ما المجد، أنت المجد والحسب»، لعلنا نتذكر ونتفهم معاني أغنيتها الرائعة «سوا ربينا»… ومعها الجيرة والعشرة والأخوة والقرابة والنسب والمحبة والمصلحة الواحدة.
المصدر : الحياة