جاء إطلاق سراح 16 من الجنود اللبنانيين المختطفين لدى «جبهة النصرة» في جرود عرسال، على الحدود اللبنانية السورية، منذ أكثر من عام، ليقدّم بارقة فرح لأهالي العسكريين واللبنانيين عموماً في مشهد يحيطه البؤس والخراب والألم الإنساني بسبب تداعيات التراجيديا السورية وتداخلها الكبير بالوضع اللبناني.
وتعبّر هذه الانفراجة التي أعادت ستة عشر رجلاً إلى عائلاتهم وأطفالهم وحياتهم الطبيعية عن تفوّق رغبة الحياة على الموت، والإمكانية التي تقدّمها المفاوضات والتسويات لتغيير جزئيات ووقائع بشرية قد تكون بسيطة على الأرض لكنها تعيد الأمل بالإنسانية وتخفّف القليل من وطأة زئير الموت المتصاعد في المنطقة التي ازدحمت بالجيوش والرايات والطائرات المقاتلة وتفاهمات التنسيق على قصف الحجر والبشر والنبات فيما تُرك الناجون أو المعاقون أو اللاجئون والنازحون لوحشية الظروف التي تحاصرهم.
الإفراج عن الجنود قام على اتفاق تضمن فتح ممر إنساني آمن ودائم لمخيمات النازحين السوريين في عرسال وتأمين المواد الإغاثية والطبية وتجهيز مستشفى البلدة وتأمين عدد من الجرحى المدنيين المتواجدين في سوريا، وتعهدت الحكومة اللبنانية بتسوية الأوضاع القانونية للمفرج عنهم من السجون، والذين سيختارون البقاء في لبنان أو يودون السفر إلى دولة أخرى.
نجاح هذه العملية قام على مفاوضات مطولة دامت أكثر من عام وساهمت فيها قطر وأطراف أمنية وسياسية لبنانية، وكان طريفاً أن بعض العسكريين المخطوفين قاموا بشكر «جبهة النصرة» على ما اعتبروه معاملتها «الطيبة»، فيما اختار عشرة من السجناء الذين تمكنت «النصرة» من إطلاقهم البقاء في لبنان على الالتحاق بالتنظيم.
من القضايا التي أظهرتها العملية أن «جبهة النصرة»، والتي يُلحق باسمها عادة كونها ممثل تنظيم «القاعدة» في سوريا، هي اختلافها عن تنظيم «الدولة الإسلامية» من حيث مكوّناتها التي يغلب عليها الطابع السوري، وكذلك قدرتها على التحالف والتفاوض وإعطاء إشارات سياسية ذات مغزى، كما فعلت حين رفعت راية الجيش السوري الحرّ في الجولان خلال أزمة احتجاز جنود الأمم المتحدة، في آب/أغسطس من العام الماضي، ومقابل تحالفاتها مع بعض فصائل المعارضة السورية الكبيرة كـ»أحرار الشام»، فإنها تختلف سياسياً مع «الدولة الإسلامية» التي لا تقبل تحالفات أو شركاء لها في أي مكان تحلّ فيه، مما أدى لصراعات دموية بينهما أحياناً.
وإذا كانت «النصرة» قد اكتسبت بعض المصداقية من قدرتها على التفاوض وتوقيع اتفاقات مع جهات أمنية وسياسية، فإن الجهات السياسية واللبنانية كشفت أيضاً عن مرونة وقدرة على ترتيب أولويات يقع إنقاذ حياة العسكريين وإعادتهم إلى عائلاتهم على رأسها، وهو أمر يُشكر لها فسلطات العالم العربي (والكثير من سلطات العالم بما فيها المتلفعة بالديمقراطية) أغلبها غاشمة ولا تهتم بالحياة البشرية لمن تدّعي مسؤوليتها عنهم كمواطنين، وهي تفضّل إعلاء شأن سيادتها وإظهار قدرتها على البطش والقهر بدعوى عدم محاورة الإرهابيين، وهي التي ساهمت بكل قوتها في صنعهم لتبرير فسادها وتوحشها ضد شعوبها.
ويتصادى هذا مع صيحات متفرقة لسياسيين ومفكرين وكتاب غربيين يطالبون بمحاورة هذه التنظيمات ومحاربتها في الوقت نفسه، كما اقترح مؤخرا جوناثان باول، مدير طاقم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، في صحيفة «الغارديان».
السلطات الأمنية اللبنانية قالت إنها مستعدة للتفاوض مع «الدولة الإسلامية» لإنقاذ عسكريين آخرين مختطفين وهو طور جديد من اقتراحات التفاوض تكتنفه الشكوك، ولكنّه ليس مستحيلاً، وإذا تحقّق وأعاد بقية المختطفين إلى أهاليهم فسيكون قد فتح ثغرة جديدة في جدار التوحش وأعادنا، بعض الشيء، إلى إنسانية اعتقدنا أنها دُفنت مع من دفنتهم القاذفات الأمريكية والروسية والسورية والإسرائيلية تحت الأنقاض.
المصدر : القدس العربي