قيل وكتب الكثير، بحق، عن اختلاف الخارطة القائمة لدول الشرق الأوسط، عن تلك التي اتفق عليها الخبيران البريطاني والفرنسي (وثالثهما الروسي سازانوف) في العام 1916 بهدف تقاسم النفوذ بين القوى العظمى على تركة الرجل العثماني المريض. فهو اعتراض صحيح، لكنه غير كافٍ لتبرئة تلك الوثيقة المشؤومة التي ستؤسس لتقليد رسم مصائر الشعوب، في غرف الفنادق البعيدة، من قبل قوى دولية مقتدرة منحت نفسها الحق في رسم خرائط الدول.
ولعل المحاولات المتكررة من المحتل الفرنسي لتقسيم سوريا بين دويلات قائمة على أسس دينية ومذهبية، على مدى عشرينات القرن الفائت، وإهدائه لواء اسكندرون إلى تركيا، وبيع بريطانيا العظمى فلسطين للحركة الصهيونية، وتقسيم الكرد بين ثلاث من الدول الحديثة النشأة.. تشكل أمثلةً متطرفة على تلك الذهنية الاستعمارية للرجل الأبيض المتفوق الذي يحق له هندسة مصائر الشعوب «المتخلفة».
بعد مرور قرن على الاتفاقية المذكورة، يبدو المشهد الشرق ـ أوسطي أشبه ما يكون باستعادة لأجواء تفكك الإمبراطورية العثمانية في ذلك العصر البعيد، حيث الرجل المريض اليوم هو سوريا (ومحيطها المباشر) مع مؤتمرات دولية للأوصياء الجدد (فيينا1، فيينا2، ميونيخ، فيينا3..) يغيب عنها أصحاب العلاقة، أو يتصدر هؤلاء المشهد (سلسلة مؤتمرات جنيف المرقمة) ممثلين عن الأوصياء المذكورين، لا عما يفترض أن يمثلوه من أطراف داخلية سورية.
وبعدما تراجع الوزن الدولي لبريطانيا وفرنسا في قيادة العالم، حل كل من الأمريكي كيري والروسي لافروف محل كل من سايكس وبيكو، في الاتفاق على مستقبل سوريا، من حيث المبدأ، ولكن أساساً لرسم ملامح قرن جديد من تاريخ المنطقة. أو هذا ما يبدو للوهلة الأولى.
ذلك لأن المقارنة بين القوتين الاستعماريتين القديمتين (بريطانيا وفرنسا) ووريثتيهما المفترضتين (الولايات المتحدة وروسيا) تنطوي على مفارقات. ففي حين كانت بريطانيا وفرنسا، في لحظة سايكس بيكو، قوتين في أوج صعودهما وسؤددهما على مستوى العالم، تبدو واشنطن وموسكو في درجات متفاوتة من انحسار قوتيهما. فروسيا بوتين التي لم تتعاف بعد من تداعيات تفكك امبراطوريتها السوفييتية، وانحطاط اقتصادها إلى مرتبة الدول النامية، تشبه رجلاً ذي عضلات منتفخة ورأس ضامر ومعدة خاوية، تعمل بصورة مفتعلة لاستعادة النزعة التوسعية الروسية دون امتلاك مقومات الإمبراطورية.
وبعيداً عن تحميل سياسة إدارة أوباما الشرق أوسطية، كامل مسؤولية نزعة الانسحاب، ثمة معطيات وفيرة على انحسار قوة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، وإن كانت الأولى ما تزال، بالقياس إلى القوى الدولية الأخرى. يستشرف زبغنيو بريجنسكي آفاق القوة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين بالقول إن الولايات المتحدة ستبقى القوة الأولى عالمياً على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكنها لم تعد قوة امبريالية على المستوى الكوني بسبب تعقيد تبدلات موازين القوى الإقليمية في مناطق مختلفة من العالم.
كمحصلة لهذا الضعف المزدوج الروسي والأمريكي، واستثماراً فيه، تدور صراعات طاحنة بين قوى إقليمية صاعدة وطامحة، كإيران والسعودية وتركيا، لفرض هيمنتها ونفوذها على تركة رجل مريض تمتد من العراق إلى لبنان، مروراً بساحة الصراع الرئيسية المشتعلة في سوريا. وتبدو روسيا وكأنها مجرد واحدة من تلك القوى الإقليمية، بسبب اعتمادها الحصري على قوتها العسكرية لفرض مصالحها الاستراتيجية. وفي رأي بريجنسكي أن روسيا تعيش اليوم المرحلة الأخيرة المضطربة من انهيار قوتها الامبريالية.
أمام هذه اللوحة، وبالنظر إلى مسار محاولات «الحل السياسي» في سوريا، القائمة على توافق أمريكي ـ روسي، إلى اليوم، لا يمكن توقع اجتراح أي حل سحري، في وقت قريب، من شأنه أن يضع كيري ولافروف، على صفحات التاريخ، محل سايكس وبيكو.
عموماً هناك مقاربتان متعارضتان في النظر إلى «عامل سايكس بيكو» إذا جاز به التعبير عن رسم القوى العظمى لمصائر الشعوب بمعزل عن إراداتها، في هذه المنطقة من العالم. وتلقي مقاربة أولى بكامل المسؤولية عن عدم تعافي دول المنطقة واستقرارها ونهضتها على «الإستعمار»، في حين تتبنى المقاربة الثانية النظرة الاستشراقية الاستعمارية التي تعيد مشكلاتنا إلى جوهر ثقافي «متخلف» أو «مفوَّت» هو من صلب وجودنا الاجتماعي. المقاربة الأولى «البعثية ـ الإسلاموية» تتبرأ من أي مسؤولية ذاتية، وتحشد وتعبِّئ (الجماهير ضد الامبريالية)، لتمكين طغمة سلطوية من رقاب البلاد والعباد. في حين تبرِّئ المقاربة الثانية «الحداثوية ـ العلمانوية» الاستعمار والطغم العسكرية «الحديثة» معاً لتصب جام غضبها على «الإسلام» أو «العقول المتخلفة» أي على المجتمع.
بكلمات أخرى: تقول المقاربة الأولى إن تدخل القوى الخارجية هو المشكلة (وهي بالنسبة للنظام: السعودية وقطر وتركيا، ومن ورائها الغرب الأطلسي، في حين أنها بالنسبة لمعارضيه إيران وروسيا). أما المقاربة الثانية فتقول إنه إذا تركت شعوب المنطقة لمصيرها، فسوف تتذابح إلى يوم الدين. من المحتمل أن الإدارة الأمريكية تتبنى هذه الرؤية وتميل إلى ترك هذه الشعوب لمصيرها المفترض هذا.
يعتبر الكرد أنهم الضحية الأبرز لاتفاقية سايكس بيكو، إن لم يكونوا الضحية الوحيدة. لذلك خرجت جاليات كردية في مظاهرة احتجاج، بمفعول رجعي، ضد الاتفاقية المذكورة التي تجاهلت التطلعات القومية للكرد، فحرمتهم من إقامة كيان قومي يخصهم أسوةً بشعوب أخرى. وكان لافتاً أن التيارات السياسية الكردية انقسمت في تفاعلها مع مظاهرة كولن في ألمانيا. فشاركت فيها أحزاب التيارين البارزاني والطالباني، وناصبها التيار الأوجلاني العداء. وتفسير ذلك أن أنصار أوجالان السوريين قد تخلوا عن فكرة كردستان الموحدة المستقلة، منذ اعتقال زعيمهم في العام 1998. في حين يتجه مسعود بارزاني بخطى ثابتة نحو الاستقلال. أما حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا الذي أعلن كيانه الفيدرالي في شمال سوريا، فهو متمسك بحدود سايكس بيكو، قولاً وفعلاً، بخلاف المخاوف المفتعلة لدى عرب سوريا بهذا الخصوص.
المصدر : القدس العربي