تشكل المسألة الكردية أحد تعقيدات النزاع في سورية فالصراع الذي بدأ كانتفاضات احتجاجية محلية لتحقيق مطالب عادلة سرعان ما تحول إلى صراع إقليمي ودولي عملت فيه القوى المتدخلة إلى دعم واسناد قوى وتوجهات تتقاطع مصالحها وقد استثمر الأكراد اللحظة التاريخية لتحقيق هوية سياسية كردية تتأسس على جغرافيا واقعية تستكمل مشروع الأمة الكردية المتخيلة وقد ساعدت الظروف الموضوعية على تسهيل إمكانية تحقق المشروع الكردي مع إرهاصات تفكك منظومة «سايكس ــ بيكو»، وتمكن الأكراد من نسج علاقات مع القوى الدولية الكبرى وتقديم أنفسهم كشركاء موثوقين في «الحرب على الإرهاب».
على وقع حرب الإرهاب نجح الأكراد في تقديم أنفسهم كشركاء موثوقين وفاعلين مع أطراف الصراع الدولي والإقليمي والمحلي كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيران والنظام السوري باستثناء تركيا وقد أغرت ديناميكية الصراع وتعقيدات المشهد الأكراد إلى الإعلان عن تأسيس»الاتحاد الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا ـ شمال سورية» في 17 مارس/آذار 2016 لكن تبدل التحالفات وبروز تفاهمات روسية تركية إيرانية حول المسألة السورية جعل من حلم الأكراد أشبه بكابوس فبعد أن كان النظام السوري متحالفا مع الأكراد ضد «داعش» في معارك القامشلي والحسكة وحي الشيخ مقصود الحلبي وغيرها من المناطق باتت ذات المناطق مسرحا لمعارك بين الطرفين.
لم تقتصر تحولات المشهد الكردي على انقلاب بعض التحالفات الإقليمية والدولية بل طالت المكون الكردي ذاته حيث تفجّر خلاف جديد بين أكبر قوتين سياسيتين في الشارع السوري الكردي في محافظة الحسكة السورية على خلفية قيام حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي والذي يتقاسم السيطرة على المحافظة مع النظام السوري بحملة اعتقالات طاولت قيادات من «المجلس الوطني الكردي».
في سياق الحرب على الإرهاب تحولت أطراف الصراع إلى أصدقاء للكرد عدا تركيا التي حاولت خطب ود وصداقة الأكراد إلا أن ذلك لم ينجح بعد أن حسم الأكراد خياراتهم السياسية باتجاه الأطراف التي تتفهم حلم «روج آفا»، وهي ترجمة حرفية لكلمة غرب كردستان، وتطلق على الجزء الكردستاني الواقع في سوريا، حيث عملت الفصائل الكردية على نقل المشروع من حيز الإمكان إلى الواقع بهدوء بعد معركة عين العرب «كوباني»، التي برزت كنموذج ناجح لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بالاعتماد على قوى محلية بإسناد قوات التحالف الدولي، الأمر الذي أغرى القوات الكردية المموهة ببعض عناصر الجيش الحر لتطهير المناطق الواقعة تحت سيطرته من المكونات الإثنية والعرقية الأخرى من خلال حملات التهجير لكل مكون غير كردي من العرب والتركمان والآشوريين وغيرهم، تحت ذريعة محاربة إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية.
المشروع الكردي في سوريا كان قريب المنال في ظل الخلافات التركية الروسية فقد افتتحت في العاصمة الروسية موسكو أول ممثلية لـ «الإدارة الذاتية»، التي يتزعمها حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، بقيادة صالح مسلم في 10 شباط/ فبراير الماضي وقد صرح ممثل الحكومة الروسية خلال الافتتاح بأن «هذا الحدث يعتبر تاريخيًا للكرد»، حيث ستلعب الممثلية دورا مهما في الحل السياسي للكرد في المنطقة متمنيًا أن تكون ممثلية «غرب كردستان» مجرد بداية لافتتاح ممثليات أخرى وفي دول أخرى وضمت الخارطة التي وضعت في ممثلية «الإدارة الذاتية» معظم محافظة الحسكة والأجزاء الشمالية من محافظة الرقة ومعظم المنطقة الشرقية والشمالية من محافظة حلب وصولًا إلى الريف الشمالي والغربي في إدلب.
الظروف الموضوعية التي مكنت الأكراد من الاقتراب من تحقيق حلم الفيدرالية وربما الاستقلال توشك على التغيير مع نهاية معركة منبج وهي النقطة الأبعد التي يمكن للأكراد الاندفاع للقتال فيها خارج نطاق حدود روج آفا، حيث استثمر الأكراد حاجة أطراف الصراع الدولي لدورهم فالولايات المتحدة حسمت خياراتها بالتحالف مع من يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية حصرا وعلى مدى خمس سنوات وجدوا ضالتهم بالإكراد وروسيا كانت تدرك بأن مهمة الحفاظ على نظام الأسد يتطلب تأمين الحدود الشمالية لقطع إمدادات المعارضة السورية من تركيا وهي مهمة يصعب تحقيقها بدون الأكراد، كخطوة أولية ضرورية قبل الانخراط في معركة حلب والاطباق على «جيش الفتح» ومكوناته الأقوى جبهة النصرة وأحرار الشام، فاستعادة السيطرة على مدينة حلب ومحيطها تتطلب إغلاق الحدود التركية لوقف تلقي الثوار الدعم اللوجستي، ولا يمكن القيام بهذه المهمة بدون الأكراد الذين بات مشروعهم يقوم على ربط جيوبهم الحدودية الشرقية بين عفرين وكوباني ضمن أراض»روج آفا»، وبهذ كان واضحا أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» يجمع في تحالفاته بين أمريكا وروسيا والأسد لكن تبدل التحالفات عصف بكل تلك الأطروحات.
على مدى سنوات الثورة السورية ارتهنت تركيا لسياسات الولايات المتحدة وتقلبات قراراتها ولم تتعامل مع أهواء السياسة الأمريكية بقرارات عملية كافية واكتفت بمراقبة السلوك الأمريكي بالانتقال من خانة أصدقاء الشعب السوري إلى براغماتية الأقليات الإثنية ومبرراتها العملية، وكان عليها أن تقرأ جيدا تطورات العلاقات الأمريكية الكردية والتي أسفرت في 12 تشرين أول/اكتوبر 2015 عن تشكيل جديد تحت اسم «قوات سوريا الديمقراطية»، فالتسمية الأمريكية عمدت إلى التعمية على التوجهات القومية والإيديولوجية للقوة الجديدة التي تتمتع بعلاقات مع النظام السوري وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني وسلالاته العديدة، أمثال «قوات الحماية الشعبية»، وهي قوات كردية تابعة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»، و»قوات حماية المرأة» وهي فرع من قوات الحماية الكردية، أما بقية القوى المشاركة ضمن»قوات سوريا الديمقراطية» فهي فصائل تجميلية من أقليات إثنية ومجموعات قبلية أمثال «قوات الصناديد» وهي ميليشيات عشائرية يقودها حميدي الدهام، شيخ عشيرة شمر، و»المجلس العسكري السرياني»، و»غرفة عمليات الفرات»، وتجمع ألوية الجزيرة».
هكذ فإن التفاهمات التركية الروسية الإيرانية تعيد خلط الأوراق من جديد وتجعل من حلم الكرد بإقليم فيدرالي بعيد المنال كما أن الولايات المتحدة التي دعمت الكرد في سياق الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية لن تدافع عنهم كعادتها مع حلفائها بعد انتهاء دورهم ذلك أن الكرد لا يمكنهم الذهاب بعيدا في استثمار مسألة حرب الإرهاب وبهذا فإن تعقيدات المسألة السورية تكشف عن تحديات جديدة ونهاية تحالفات وبناء أخرى والأكراد أحد ضحاياها.
المصدر : الرأي