على أطلال كل ما يحدث، يسأل سوري بسيط نفسه «لأجل أي شيء، وفي سبيل ماذا، جرت وتجري كل هذه القسوة، هذا المسلخ والتحطيم والقتل والتشريد!». يصل بالسؤال إلى حده الأقصى: هل ثمة بلد ما يستحق أن يُبذل في سبيله كل هذا، وإذ كانت سورية بطبيعتها وموقعها ونظامها وشكل العلاقات بين جماعاتها الأهليّة تستجر كُل هذه الفظاعات، فهل ثمة حاجة لأن تكون وتبقى بهذه الأسس. وبالتالي، هل هُناك ما هو أثمن من تجاوز هذه المحنة الرهيبة، حتى لو كان ذلك بتحطيم الهويّة الرسميّة للبلاد؟
لا جواب عن ذلك، سوى الفصاحة المتعالية التي تبثها النخب السوريّة، السياسيّة والثقافيّة على حدٍ سواء، منذ ست سنوات حتى الآن. فكما انشغلت غالبية هذه النخب السوريّة لعقود بالقضايا الكُبرى المُجردة، بإشكاليات الدولة والعولمة والإسلام السياسي والعقل العربي والاشتراكيّة ومواجهة الإمبرياليّة، فإنها مُنذ اندلاع الثورة غارقة في خِطابات الديموقراطيّة والمدنيّة والوحدة الوطنية وتجريم النِظام، وهذه الأمور، على أهميتها، ليست جوهر مشكلة سورية والسوريين، وهذه النخب هي الأعلم بذلك.
أغلبية السوريين يُدركون أن طبيعة النظام الاستبدادية والنهب العام المُنظم وقمع الحياة العامة كانت مداخل لأن تصل سورية إلى الثورة، إلا أن أدوات إيقاف هذه المأساة لا تتعلق بالخطابات المُضادة لذلك، كالغرق في الحديث عن الوحدة الوطنيّة والديموقراطيّة والمدنيّة، وأن ثُنائيّة العلاقات المُعقدة بين الجماعات الأهلية وتموضع النظام ضمن اللعبة الإقليمية هما الأداتان اللتان تمنحان النظام هذا «الجبروت» والثقة بارتكاب هذه الفظاعات، وأنه لا طريق لتفكيك النظام سوى بتفكيك ذلك، عبر المناقشة الشجاعة والحيوية لهذين الملفين المُعقدين. تتعامى الخطابات السورية عن الطائفيّة، على رغم كونها أهم ديناميات الحياة العامة السوريّة، ليس فقط منذ انقلاب عسكر «الأقليات» على نُظرائهم السُنة، في 23 شباط (فبراير) 1966، كما تحاول ذاكرة المعارضة السورية أن تُثبتها، بل منذ نشأة الدولة السورية، حينما لم تكن الطوائف والجماعات السورية من غير «العرب السُنة» مرئيين سياسياً واقتصادياً، وحتى اجتماعياً بالأساس. وهي العلاقة التي أدت بشُبان الأقليات لأن يتطوعوا في الجيش بكثافة، وأن يُسيطروا عليه وعلى الحياة العامة في ما بعد، وأن يعكسوا حالة الهيمنة السياسية التي كانت قبلاً.
تسعى الفصاحة السورية لأن تقول أن الديموقراطية والدولة المدنيّة والمواطنة هي العلاج لتجاوز هذه العلاقة المُعقدة بين الطوائف، وهي تُدرك تماماً بأن هذه الخطابية تفتقد المصداقية إلى حدٍ كبير، بدلالة سلوكيات وأدبيات التيارات الدينية الطائفيّة المُعارضة، وهي لا تستطيع أن تطمئن القواعد الاجتماعية لأبناء الأقليات، الأكثر التصاقاً بنظام الأسد. بل إن هذه الخطابية الفوقية غير الواضحة، تزيد من اندماجهم وولائهم للأسد. ما لا يتجاسر الجميع على قوله أن تحطيم المركزية السورية وحدها تستطيع أن تفكك تلك العلاقة المُعقدة. فإعادة تشكيل سورية على أساس تعدد مراكز الحُكم الحقيقيّة، وإن بهويات وخيارات طائفية وقومية، وحدها القادرة على بث الطمأنينة في الجماعات السورية، وأيضاً وحدها القادرة على إعادة ترتيب علاقات سليمة بين هذه الجماعات، قائمة على المصالح والوضوح وعلى هيمنة أقل، وإن لم تكن مثالية بأي شكل. لكن أولم تكن العلاقات المثالية «العلمانية – المدنية» هي بالضبط أداة نظام الأسد للفتك بالمُجتمع السوري؟
ما ينطبق على العلاقات بين الجماعات السورية ينطبق على موقع سورية وموقفها من «اللعبة الإقليميّة»، بين تركيا وإيران والخليج ومصر. فهل سورية دولة سُنيّة أساساً أم عربيّة أم قوميّة سوريّة، أم هي حقيقة جزء من محور المُمانعة، أم هي فقط دولة عادية وبسيطة ومُطابقة لهوية سُكانها الحقيقيين؟. هذا السؤال الأخير يفتح باب مسألة العلاقة السوريّة-الإسرائيلية واسعاً، لأن الموقف من إسرائيل وشكل السلام والحرب معها، هو الجواب الحقيقي عن كل ذلك. لكن ما زال سوريون يستطيعون الاعتراف بأن موقف وموقع سورية من إسرائيل هو أحد أسس مأساة بلادهم، وأن نِظام الأسد الذي حكمهم لنصف قرن بدعوة وآلية مواجهة إسرائيل، يُمكن أن يخلفه نظام آخر مطابق له في الآلية، وإن بنزعة سُنيّة أو وطنوية سوريّة، فيما لو بقيت الأحوال على ما هي عليه. فالاعتراف بأن سوريّة دولة بسيطة وعاديّة، لا تستطيع ولا يجب أن تكون أكبر من حجمها ودورها الطبيعي المناسب، يتطلب شجاعة استثنائية أخرى من السوريين، شجاعة تتطلب أن يتجاوزوا روحهم القوميّة وخطاباتهم المُجردة.
المصدر : الحياة