لا شيء يشي بما سيحدث في معركة الرقة، وقد وصلت طلائع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مشفوعةً بالدعم الأميركي الكبير، إلى منطقة الكيلومتر صفر، وعبر ثلاثة محاور، شرق المدينة وغربها وشمالها، لكن المكشوف عن هذه المعركة أنها مصيريّة على صعدٍ عدة ومهمة للأطراف المتصارعة، وهي محطُّ اهتمام قوى عديدة، مؤتلفة كانت أو مختلفة.
الجانب الظاهر من معركة الرقة أنها درّة تاج معارك “قسد” التي خاضتها في مواجهة التنظيم، وأنها تعني لهذه القوات، من بين ما تعنيه، البقاء شريكاً أوحدَ للأميركان وحليفاً راسخاً في مواجهة التنظيمات الإسلامية الراديكالية. وبالتالي، لا خيار أمام القوات المتقدّمة إلى مشارف المدينة سوى الاستمرار والخوض في هذه المعركة حتى آخرها، وتحقيق الفوز في المرحلة الخامسة من مراحل عملية “غضب الفرات” التي أعلنتها “قسد” في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، والرامية إلى “تحرير” مدينة الرقة، كما لا خيار أمام “داعش” غير المواجهة وتحديد مصيره الذي بات ينوس بين الاندثار والهزيمة أو إطالة أمد بقائه على الأراضي السورية، فالمعركة الحاصلة وتلك القادمة ليستا معارك ضغطٍ أو محاولاتٍ تهدف إلى ثني “داعش” عن أمرٍ ما، بقدر ما هي معارك ترمي إلى إنهاء التنظيم بشكلٍ مبرم.
في مراحل سابقة، نجح الأميركان إلى جوار “قسد” بمراكمة العناصر العربية داخل جسم “قسد” وإيلاء الاهتمام بالحضور العربي داخل هذه القوات، إلى حدٍ بلغت معادلة حجم العناصر العربية، حجمَ تلك العناصر الكردية المشاركة في عملية غضب الفرات، كما نجح الأميركان في التملّص من الضغوط التي مارستها تركيا بخصوص تسليح “قسد” بأسلحة ثقيلة وفتّاكة، ما يجعل الإستراتيجية الهجومية لهذه القوات أشبه بحرب الجيوش النظاميّة المشفوعة بالطيران والوسائل اللوجستية والعسكرية المتطوّرة، في مواجهة تنظيم متمرسٍ في حروب المدن.
ثمّة مفاجآتٌ ستحملها معركة الرقة، لا يمكن استجلاؤها بسهولة، إذ لا يخفي التنظيم تكتيكاته وخططه العسكرية، وقد يضمر أمراً جللاً عبر تكتمه المديد، فمعركته هذه لن تشبه معركة الموصل التي خاضها، وأمامه خيار الانسحاب تكتيكاً إلى الجانب السوري، في حين أن انسحابه من الرقة إلى بقاعٍ أخرى يعني أنه سيبقى مكشوفاً وقابلاً للهزائم السهلة، وإذا كانت معركة الموصل معركة إشغالٍ وإطالة أمد المواجهات، فإن معركة الرقة هي معركة مصير، أو لنقل إنها من الممكن أن تحدّد وجهة التنظيم نحو الانكفاء والتقلص، وبالتالي القابلية للفناء.
سهّلت أميركا على حلفائها المحليين في “قسد” أعباء كثيرة، كتحييد تركيا وعدم إشغالها “قسد” في معارك حدودية، كما حدث في وقت قريب، حين استهدف سلاح الجو التركي مقرّاتٍ تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية، كما أن تلويح قوات “قسد” بشأن التصدّي ومواجهة المليشيات الشيعية “الحشد الشعبي”، حال قيامها بالتقدّم نحو مناطق سيطرة “قسد”، بحسب ما قاله الناطق باسم قوات سورية الديمقراطية، العميد طلال سلو، يفيد بجدية أميركا بألا تتحول مناطق سيطرة حلفائها في “قسد” إلى مناطق توتر تسببت به قوات الحشد الشعبي، وهذا يزيد من طمأنينة حلفاء أميركا بأن لا مشاغل ستثنيهم عن المعركة الأم، يضاف إلى ذلك وصول جرعات وافرة من الأسلحة الثقيلة إلى يد مقاتلي “قسد” وانتهاء اللغط الحاصل بين أميركا وتركيا التي رغبت في الحؤول دون وصول هذه الأسلحة إلى يد غريمها في الجانب الجنوبي من حدودها، على ما تخفيه أهمية تلك الأسلحة التي قد تدفع “قسد” إلى التمكّن من تصدّر الموقع الأول في ترتيب القوى المسلحة في سورية.
تبقى مسألة المدنيين، وما سيحيق بهم من أخطار، جراء القصف المتبادل وكمية الذخائر والقذائف والألغام التي ستستخدم في المدينة، ولعل الظاهر في باطن كف التنظيم أنه يتمترس بالمدنيين، ويبقي عليهم دروعاً بشرية، تؤخر سير المعارك، وتحجّم من فاعلية القوى المهاجمة، ذلك أن التنظيم يدرك أهمية ورقة “التمترس” خلف (وبين) ظهراني المدنيين، الأمر الذي يؤثر على مجرى المعارك وسرعتها، بيد أن الأميركان يعون خطورة هذه الورقة التي في متناول التنظيم، وإنها من الأوراق المعطّلة للتقدّم واكتساح التنظيم على الأرض. لذا، لم تشهد معارك الموصل مقداراً من التعاطف الغربي إزاء الضحايا المدنيين، بقدر ما طغت صور التقدّم وهزائم التنظيم على سفح الأحداث، ما يعني أن نزع هذه الورقة متوّقع الحدوث مجدّداً.
يبقى قول إن تفكير الأميركان و”قسد” في شكل إدارة الرقة وطبيعة النقاشات الدائرة حول هذا الأمر على قلتها، تبطن أمراً واحداً مفاده بأن التنظيم سيندحر في الرقة، وأن القوات المرابطة على مشارف الرقة ستنفّذ المهمة الموكلة إليها، طالت المدّة أم قصرت، وسواء كلّفت المعركة أكلافاً باهظة على صعد أرواح المقاتلين والمدنيين، أو الأضرار البليغة التي ستلحق بالعمران والبنية التحتية للمدينة. والحال أن معركة الرقة، في لقطتها شبه الأخيرة هذه، ليست المعركة المصيرية لتنظيم داعش فحسب، بل هي مصيرية كذلك لقوات سورية الديمقراطية وسمعتها ومستقبلها، وكذا هي مُهمة للإدارة الأميركية وسمعتها في ما خص شكل إستراتيجيتها الرامية إلى هزيمة “داعش”.
المصدر : العربي الجديد